الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
«روزاليوسف» الثمانينيات والتسعينيات: معركة العمر كله!

«روزاليوسف» الثمانينيات والتسعينيات: معركة العمر كله!

كانت المجلات المصورة (الكوميكس) أشبه بالكمبيوتر أو الهاتف المحمول فى أيدى أطفال وشباب اليوم.. نافذة للخروج ومرآة تعكس خيالنا ووسيلة للمعرفة، وقد أحببت «روزاليوسف» و«صباح الخير» فى شبابي، ربما لأنهما امتداد بشكل ما لمجلات الكوميكس: نصوص قليلة ورسوم كثيرة وحس فنى وأدبى واضح حتى فى طريقة كتابة الأخبار وتصميمها.



..ثم أحببت «روزاليوسف» لمضمونها المتفتح التقدمي، ومواقفها الثابتة، التى قد تتأثر وتتغير بمرور العصور والعواصف، ولكنها تعود على «التراك» مرة أخرى بفعل البنية والموروثات الثابتة فى جيناتها.

حدث ذلك فى نهاية السبعينيات عندما بدأت فى شراء «روزاليوسف» القديمة من أجل صفحة «الشطرنج» التى كان يحررها بطل مصر آنذاك «عاصم عبدالرازق» والأديب «فتحى غانم». هذه الصفحة التى توقفت بعد تغيير إدارة تحرير المجلة وسياستها عقب أحداث يناير 1977.

بعدها بعشر سنوات تقريبًا، فى نهاية الثمانينيات، يطلب منى «فتحى غانم» أن أحرر صفحة الشطرنج بالمجلة، مع بداية عهد رئيس التحرير ومجلس الإدارة «محمود التهامى»، أدام الله فى عمره وصحته، ثم أنضم بعدها بشهور إلى قسم «للفن فقط»  الذى لايزل يحتفظ بالاسم نفسه منذ عقود.

على عكس فترة السبعينيات الصاخبة، بداية تعرفى على المجلة كقارئ، كانت الثمانينيات هادئة، تخلو من المعارك الكبيرة التى اعتادت «روزاليوسف» على خوضها، منذ نشأتها، ومن الابتكار والتجديد الصحفى والفنى الذى أبدعت فيه المجلة (مع شقيقتها «صباح الخير») منذ الخمسينيات. ولكن مع التحاقى بالمجلة فى نهاية الثمانينيات تصادف أن تكون بداية عهد جديد، لعله الأكثر صخبًا، ونجاحًا، وتأثيرًا اجتماعيًا، فى تاريخ المجلة.

بالنسبة لقسم «للفن فقط» الذى كان يديره كل من الأستاذين «محمد عتمان» و«ناصر حسين» كانت التركيبة غريبة بعض الشىء: الأستاذ «عتمان» صحفى من رأسه حتى قدميه، يُدرك قيمة الخبر الصادق النزيه وقوة الكلمة وأهمية الصياغة. الجلوس بجواره وهو يقرأ موضوعًا ما ثم يقوم بتحريره أو إعادة كتابته بالكامل كانت درسًا بعشر سنوات فى أى كلية إعلام. علمنا «محمد عتمان» أيضًا ألا نخشى أحدًا ولا نجامل أحدًا لمجرد أن اسمه كبير فى عالم الفن. كان قادرًا على انتقاد الجميع والسخرية من أى أحد، وكان يقدر الفن الراقى ويجيد تذوقه ويحثنا على الكتابة عنه. على الناحية الأخرى كان الأستاذ «ناصر حسين» صحفيًا فنيًا «تقليديًا» (مثل الذين تراهم فى أفلام الأبيض والأسود) قبل أن يقرر أن ينتج ثم يصبح مخرجًا، يتخصص فى نوعية «أفلام المقاولات» التى شهدت نهاية الثمانينيات ذروة انتشارها، ويصبح واحدًا من أهم مخرجيها وأكثرهم نجاحًا. ومن ثم كان قسم الفن مزيجًا من الاثنين: اهتمام بالوسط الفنى وكواليسه وأخباره وفى الوقت نفسه عناية بالمصداقية والدقة والصياغة. ومن يطلع على صفحات الفن فى هذه الفترة سوف يجد حوارات مع قامات ونجوم الفن آنذاك ومقالات نقدية وتغطية لأخبار وأسرار الوسط الفنى التى تنتمى لنوعية «النميمة» الصحفية. كان «محمد عتمان» يصحبنا لمهرجان المسرح التجريبي، الوليد الجديد آنذاك، و«ناصر حسين» يدعونا لحضور العروض الأولى لأفلامه التجارية. وكان محررو القسم من المتدربين الجدد آنذاك: «محمد هاني، حسام عبدالهادي، عمرو أديب (الذى بدأ كصحفى فى «روزاليوسف») وأنا، بجانب بعض مقالات «زينب منتصر وفهمى حسين وفهيم ومديحة وطارق الشناوى». بعد فترة انسحب «ناصر حسين» الذى كان مشغولا طوال الوقت بأفلامه كمنتج ومخرج، ثم حدث أكبر تغيير فى مسار المجلة فى 1991 بمجىء «عادل حمودة» كمدير تحرير ثم كرئيس تحرير (غير معين رسميًا) بالتزامن مع دخول البلد كله لفترة عصيبة وحاسمة من تاريخه.

التحول كان قد بدأ قبل ذلك بسنوات مع توغل المد الوهابى ثم الجماعات التكفيرية المتعصبة ضد كل ما لا يتفق (فى رأى هذه الجماعات) مع جنتهم الأرضية المتخيلة، وعلى رأس أعدائهم المتخيلين غير المسلمين والفنانين!. خلال بداية الثمانينيات ساد نوع من التفاوض المؤقت بين الدولة وهذه الجماعات، ساهم للأسف فى تقويتها وانتشارها داخل كل المجالات ومنها الفن حيث راحت أخبار اعتزال وحجاب الفنانات تتوالى، مع قصص الاعتداءات على دور العرض وتمزيق وتشويه أفيشات الأفلام، وشن الحملات على المفكرين والأدباء، والأسوأ أنهم نجحوا أيضًا فى غزو كل المؤسسات الرسمية، وكذلك المدارس والجامعات، حيث قاموا بمنع دروس الموسيقى والتمثيل ومنع المسرح الجامعي، وقد حاول البعض مواجهة هذا المد المخيف بمبادرات فردية، كما فعل النجم «عادل إمام» بزيارته إلى أحد معاقل التطرف فى أسيوط لإقامة عرض مسرحى هناك فى 1988، وكانت «روزاليوسف» كعادتها، بمواقفها الثابتة، من الصحف القليلة جدًا التى وقفت فى وجه هذا المد الإرهابي، ربما مع صحيفة «الأهالى» فقط، بعد أن تخلى حتى حزب «الوفد» عن الديمقراطية ودخل مرحلة المزايدة والتعاون مع أقطاب ومروجى التكفير.

 مع غزو الكويت واندلاع حرب الخليج الثانية وجدت الجماعات التكفيرية ومحركوها فى الخارج والداخل المناخ ملائمًا لمحاولة فرض أفكارهم بالعنف، وبدأت سلسلة طويلة من العمليات الإرهابية من اغتيالات وقتل عشوائى وتهديدات وقضايا حسبة.. وفى ذلك الوقت العصيب كانت «روزاليوسف» تدخل مرحلتها الجديدة مع «عادل حمودة» وكتيبة بكر جديدة من المحررين الشباب (الذين كان معظمهم تحت التمرين) جمعت بينهم كيمياء وشخصيات متقاربة بشكل عجيب، رغم الاختلافات بينهم التى بدأت تظهر بعد ذلك بسنوات.

كانت «روزاليوسف» فى طليعة المقاومة ضد التكفيريين، وقد نالها ونال محرريها الكثير من المتاعب والتهديدات والدعاوى القضائية فى ذلك الوقت. كان «عادل حمودة» يمزح فى مجلس التحرير الأسبوعى عندما يمر عدد ما دون أن ترفع علينا دعوى قضائية أو استجواب فى مجلس الشعب أو حملة نارية من بعض رموز التطرف، وقد زادت المعارك اشتعالا مع اقتحام المجلة لملفات الفساد السياسى والإدارى للوزراء والمسئولين ورجال الأعمال. كان الفن فى مركز الصدارة فى هذه المعركة. ولا أعتقد أن سلاحًا آخر كان أكثر حسمًا لنتيجة هذه المعركة من سلاح «القوى الناعمة» (لم نكن نطلق على الفن والثقافة هذا المصطلح بعد)، وعندما أفكر فى الأمر الآن أدرك الإجابة على سؤال كان يحيرنا كثيرًا وقتها، وهو سبب كراهية المتطرفين الشديدة للفن والثقافة أكثر من كراهيتهم لأى شىء فى العالم. لقد كانوا يدركون أن معركتهم عقلية وروحية بالأساس، وليست حرب جيوش أو بنادق وخناجر، ويدركون أنهم يستطيعون غسل مخ أى جاهل واللعب بوجدان أى ضعيف نفسيًا، وأن التعليم والثقافة والفن هى الأشياء التى يمكن أن تحمى الناس من السقوط فى شراك أفكارهم وضلالاتهم. وقد ورثوا هذه الكراهية للثقافة والفن من سلفائهم الوهابيين، ومن التجارب الفاشية والنازية والديكتاتورية التى أدرك القائمون عليها أن الخطر الحقيقى الذى يهدد وجودهم هو الثقافة والفن وليس خصومهم المسلحون.

خاضت «روزاليوسف» فى التسعينيات أشرس وأخطر معاركها ضد الإرهاب والفساد. دافعت عن الفن والحرية بضراوة، وأثار كل عدد من أعدادها تقريبًا جدلا وحراكًا ثقافيًا واجتماعيًا، من معركة «الأفيشات» للمسرح الجامعى لمعاهد وكليات الفنون الجميلة لكتب التعليم الابتدائى والإعدادى للكتب الممنوعة للدفاع عن المفكرين والأدباء، لشن الحملات ضد قتلة «فرج فودة» ومحاولة اغتيال «نجيب محفوظ» والحكم بتطليق «نصر حامد أبوزيد» من زوجته، للرقابة على المطبوعات والمصنفات والأفلام الممنوعة للأفلام التى طاردها المتطرفون مثل (للحب قصة أخيرة) و(القاهرة منورة بأهلها) و(المهاجر) و(طيور الظلام) وغيرها.

كان هذا هو الدرس الذى تعلمناه فى «روزاليوسف» التسعينيات، والذى علمته «روزاليوسف» لقرائها آنذاك.

كانت المجلة تتصدر المبيعات وينتظرها عشرات الآلاف أسبوعيًا، على رأسهم المسئولون والمتطرفون والمثقفون، وإلى اليوم ألتقى بأشخاص يتذكرون «روزاليوسف» ومعاركها فى التسعينيات ويؤكدون أنها ساهمت فى تكوينهم وفى حمايتهم أو تحريرهم من التطرف الذى كان سائدا آنذاك. وكذلك ألتقى أحيانًا بمن يحملون الضغينة لـ«روزاليوسف» ويعتقدون أنها «كافرة» و«شيوعية» لأنها تصدت لأفكارهم وأفكار قادتهم الإرهابية خلال التسعينيات.