القرآن.. وقضايا المرأة "5" (مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ): تعدد الزوجات.. والأمر بين القيد والإطلاق!

محمد نوار
يعتبر موضوع تعدد الزوجات من الموضوعات التى تشغل بال المرأة المسلمة والرجل المسلم، وهو من الموضوعات التى بسبب إساءة فهمها يتم اتهام الإسلام بأنه ضد المرأة، وأنه دين يسمح للرجل بإطلاق شهوته ليستمتع بالنساء.
وموضوع تعدد الزوجات جاء مرة واحدة فى قوله تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِى الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا)، النساء 3، والآيات الأولى من سورة النساء تتحدث عن اليتامى الذين قد يظلمهم الناس، والسياق العام الذى ورد فيه موضوع تعدد الزوجات مرتبط باليتامى.
رعاية اليتامى:
بدأت سورة النساء بدعوة الناس إلى تقوى ربهم وإلى صلة الأرحام، ثم الحديث عن اليتامى الذين فقدوا آباءهم ويأمر تعالى برعايتهم وتنمية أموالهم ودفعها إليهم بعد أن يبلغوا رشدهم، وفى حالة الخوف من عدم رعايتهم والحفاظ على أموالهم فيمكن الزواج من الأرامل أمهات الأيتام، والخطاب موجه للرجال المتزوجين من واحدة وعندهم أولاد، لأن الآية بدأت بـ(مَثْنَى)، ولو كانت الآية تتكلم عن التعدد بشكل عام ومُطلق بلا شروط لكانت الصياغة «أولى وثانية وثالثة ورابعة»، بدلًا من (مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ)، ولكن الآية لم تذكر الزوجة الأولى لأنها ليس لها شروط محددة، وذكرت للتعدد شرطين، الأول أن تكون كل من الزوجات الثانية والثالثة والرابعة أرملة ذات أولاد، والثانى أن يتحقق العدل إلى اليتامى.
والكلمة فى القرآن نفهم معناها من سياق الآيات، وفى الآية يوجد فرق بين معنى (تُقْسِطُوا) و(تَعْدِلُوا)، فكلمة قسط تدل على معنيين متضادين الأول العدل من الأصل أقسط: (إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)، المائدة 42، والثانى الظلم من الأصل قسط: (وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا)، الجن 15، وكلمة عدل تدل على مَعنيين متضادين؛ الأول الاستواء، والثانى الاعوجاج.
والفرق بين القسط والعدل، أن القسط يكون من طرف واحد، والعدل يكون بين طرفين، فالقسط بمعنى العدل فى الآية يكون من طرف واحد وهو الرجل الذى يعتنى باليتامى، أمّا العدل بمعنى الاستواء فيكون بين طرفين هما الزوج وزوجته: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا)، النساء 3، ولذلك فالقسط بمعنى العدل فى الآية موجه لليتامى.
والقول بأن المقصود فى الآية هو الزواج من النساء اليتامى فهو غير صحيح؛ لأن اليتامى إذا بلغوا رشدهم فقد خرجوا من حالة اليتم، قال تعالى: (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ..)، النساء 6، وبما أن اليتامى قد بلغوا سن الزواج فإن النساء منهم لم يعودوا من اليتامى، أمّا قوله تعالى: (وَمَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فِى الْكِتَابِ فِى يَتَامَى النِّسَاءِ)، النساء 127، اليتم يعنى الحاجة إلى شىء، ومصطلح (يَتَامَى النِّسَاءِ) يدل على حالة من الضعف؛ خصوصًا بالنساء المحتاجات المنفردات اللاتى ليس لهن زوج.
وفى قوله تعالى: (مَا طَابَ لَكُم)، إشارة للنساء الأرامل ذوات الأولاد واللائى أصبحن مضطرات إلى القبول بأى خاطب يتقدم إليهن، وكأن المعنى المقصود «ما طاب من خاطر النساء ومشاعرهن نحوكم»، وهنا يشير تعالى إلى طيب النفس عند الأرامل مراعاة لهن، ولم تأتِ الصيغة قهرية مثل «فانكحوا ما شئتم من النساء»، فى ظل الظروف الاضطرارية.
(مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ):
وعن التعدد (مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ)، لو بدأت الآية باثنتين فمعناها أن يتزوج أكثر من رجل مشتركين فى اثنتين، ولذلك بدأت بمثنى لتعنى اثنتين اثنتين، أى كل رجل يتزوج من اثنتين، ومثلها ثلاث تعنى ثلاثة ثلاثة، ورباع تعنى أربعة أربعة.
ونجد مثل ذلك فى قوله تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِى أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ..)، فاطر 1، يعنى قسْم له اثنتين اثنتين من الأجنحة، وقسْم له ثلاثة ثلاثة، وقسْم له أربعة أربعة، بمعنى منهم من له جناحان، ومنهم من له ثلاثة، ومنهم من له أربعة.
وفى التعدد: (مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ)، الواو للعطف تدل على أن لك أن تختار بين الحالات الثلاثة، ولو قال «أو» فيقتضى التخيير يعنى أن تختار حالة واحدة منها فقط أو اثنتين أو ثلاث أو أربع.
التعدد استثناء:
وقد رأى البعض أن للتعدد أسبابًا، منها زيادة القدرة الجنسية عند بعض الرجال، أو عقم المرأة، أو مرضها، أو سوء طباعها، مع أنه تعالى قال: (وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا)، النساء 20، وهو الحل بمفارقة الزوجة والزواج بزوجة أخرى، والآية هنا لا تقدم التعدد كَحَل من الحلول.
فالأصل فى الزواج هو بين ذكر واحد وأنثى واحدة، أمّا التعددية بالنسبة للرجل فهى حالة استثنائية وليست أصلًا، وقد تم وضع حد أعلى لهذه التعددية المشروطة بالعدل بين الأبناء، وعدم أكل أموالهم من والدهم، وامتلاك القدرة المادية على إعالة الجميع.
ومحور الآية هو العناية بالأيتام وكفالتهم من خلال الزواج بأمهاتهم، وتحقيق العدل بين أولاد الرجل من الزوجة الأولى وبين الأيتام أولاد الزوجة التالية، والعدل يكون بين الأيتام المختلفة أمهاتهم؛ لأن العدل بين النساء هو أمر لا يتعلق به تشريع لأنه غير ممكن فى واقع الحال: (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ..)، النساء 129، وبالتالى لا يكون ذلك محل تكليف لأنه فوق استطاعة الإنسان، بخلاف العدل بين اليتامى فهو محل تكليف لإمكانية حدوثه فى الواقع، ولكن طلب تعالى من الرجال إظهار شىء من الميل نحو الزوجة الأخرى: (فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ..)، النساء 129، بحيث تشعر أنها مازالت مرغوبًا فيها.
لا يأمر تعالى الرجال بالعدل بين الزوجات، لأن الأمر لا يتعلق بالمستحيل وإنما يتعلق بالممكن حدوثه فى الواقع، والعدل بين الزوجات أمر يستحيل حدوثه فى الواقع بالنسبة للزوج.
ومن الخطأ أن نفصل موضوع التعددية عن الهدف الأساسى وهو اليتامى، ونجعل الهدف الأساسى هو حرية الرجل بالزواج متى شاء مثنى وثلاث ورباع، ومن الخطأ ابتداع مبررات للرجل تسمح له بالتعددية مثل عدم إنجاب المرأة مع أن عدم الإنجاب يصيب الرجل أيضًا، ومثل أن الرغبة الجنسية عند الرجل تبرر له التعددية مع أن المرأة قد تزيد عندها الرغبة الجنسية، ومثل عجز المرأة كزوجة بسبب المرض المزمن مع أن الرجل قد يكون هو العاجز المريض، أن ما يسرى على المرأة إنسانيّا يسرى على الرجل والحل لا بُد أن يكون عادلًا لا أن ينحاز لأحدهما على حساب حق الآخر.
تقييد التعدد:
الآية تحدثت عن تعدد الزوجات وهو تقليد كان موجودًا قبل القرآن، ولما نزل القرآن وضع شروطًا للتعدد من خلال تشكيل منظومة اجتماعية إنسانية جديدة تكون مثالًا نموذجيًا للفكر المتضمن فى آيات القرآن الكريم والذى يعمل على التغيير التدريجى للمجتمع.
لقد احترم القرآن النظام الاجتماعى القائم فيما يخص العلاقات الزوجية، لكنه فى الوقت نفسه كان يعمل على تقديم حلول للمشاكل التى تواجه الأزواج بحيث يمكن العيش فى إطار علاقة زوجية أساسها الاحترام المتبادل، حتى فى حالة تعدد الزوجات فهو أمر تحكمه شروط منها تحديد عدد الزوجات فى أربع، والعدل بين الأولاد، ومراعاة مشاعر الزوجات.
وتعتبر هذه الشروط هى أول خطوة لتفادى الانشقاقات الاجتماعية، بدأ ذلك فى الآية التى تحدثت عن التعدد وقيدته فى نهايتها: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً)، النساء 3، هذه الشروط الملزمة من المفروض ألا تشجع على التعدد بالنسبة لمن أدركوا الهدف من الآية وهو الاحترام بين الزوجين والإنصاف والعدالة.
تشريع للحماية:
والآية نزلت بعد غزوة أحد والتى فقد فيها المسلمون الكثير من الرجال بالقتل أثناء الحرب، مما جعل اليتامى والأرامل عرضة للظلم والاستغلال، وعندما سمح القرآن بالتعدد فقد كان ذلك بهدف حمايتهم، فالهدف من الآية هو ضمان العدالة، وليس الهدف أن يكون تعدد الزوجات مباحًا على الإطلاق لأن ذلك سيؤدى إلى الظلم، وهو ما حذر منه تعالى: (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ)، النساء129.
فتعدد الزوجات يؤدى إلى ظلم كل زوجة منهن مَهما كانت درجة عدالة الزوج، وهنا نجد أحد أمثلة التربية الإلهية التى تجعل الوصول إلى الأهداف يحدث بصورة تدريجية وفى توافق مع الواقع حتى لا يحدث خلل فى المجتمع.
إن تعدد الزوجات فى هذا السياق يشكل خروجًا عن القاعدة العامة فى الزواج من زوجة واحدة، حتى إن النبى عليه الصلاة والسلام غضب واستنكر عندما سمع أن عليًا زوج ابنته فاطمة يريد الزواج عليها بامرأة ثانية.
ومع أن الأحكام القرآنية تضبط تعدد الزوجات بشروط محددة؛ فإننا نجد حدوث التعدد من دون ضوابط، حتى صار الزواج بأكثر من واحدة عند بعض الرجال المسلمين وكأنه امتياز خاص منحه الله لهم.
إن تعدد الزوجات يأتى حلًا لمشكلة اجتماعية إنسانية قد تقع وقد لا تقع، بدليل قوله تعالى (فَإِنْ خِفْتُمْ)، فقد كانت التعددية منتشرة لدى المجتمعات المختلفة من دون حدود أو شروط، ثم جاء القرآن الكريم ليحدد العدد بأربع ويضع شروطًا ليجعل منها حلًا يلجأ إليه أفراد المجتمع تبعًا للظروف.