الأحد 28 سبتمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
مصر أولا.. قراءة هادئة فى «عودة الكتاتيب»

هل نسافر إلى الماضى

مصر أولا.. قراءة هادئة فى «عودة الكتاتيب»

الكتاتيب لم تكن، ولن تكون، مؤسسة تربوية مثالية. قطعًا، لعبت دورًا تاريخيًا مهمًا فى وقت لم يكن فيه وجود للمدارس النظامية. لذا يكون السؤال بوضوح: هل يمكن اليوم فى القرن الحادى والعشرين.. أن نلجأ إلى الكتاتيب ونثق بها فى تأهيل وتربية الأطفال.. دون رقابة ودون رؤية تربوية حديثة؟! وهل من الأصل نحن فى حاجة إليها فى ظل وجود معاهد وجامعات أزهرية؟!



عودة الكتاتيب إلى مجال التربية والتعليم هو تعبير عن لحظة فارقة، تطرح العديد من الأسئلة.. فيما إذا كنا بصدد إحياء شكل تربوى تقليدى له جذور فى الوجدان المصرى، أم بصدد الالتفاف على مشكلات وأزمات التعليم الرسمى. وهل عودة الكتاتيب هى حل تربوى حقيقى، أم مجرد نوع من الإحلال للمؤسسة التعليمية التقليدية؟

 حقيقة تاريخية

تعد الكتاتيب شكلًا أوليًا لنظام تعليمى.. اعتمد فى هذا السياق على الحفظ أكثر من الفهم والحوار والنقاش والإبداع والتطبيق العملى. واعتمد العقاب البدنى.. كقاعدة للتربية والتعليم، وليس استثناءً. وربما تجد دعوة عودة الكتاتيب صدى لدى البعض باعتباره حلًا سريعًا مؤقتًا وتقليديًا وقليل التكلفة.. كنوع من تعويض فقد الدور التربوى للمدرسة، بعد أن تركت الأسر والعائلات.. تربية أبنائهم لمواقع السوشيال ميديا والتطبيقات المتعددة.

وتظل الحقيقة.. هى أن الكتاتيب ليست هى الحل، ولا المدرسة وحدها كافية، ولا الأسرة وحدها قادرة على ذلك فى ظل تحديات الحياة اليومية.

 التجاوز دون عودة

إذا أردنا فعلًا تربية حقيقية، فالطريق ليس العودة إلى الماضى.. بل تجاوزه من خلال مؤسسات تربوية وتعليمية مرخصة تحت إشراف الدولة ورقابتها لتأكيد وجود بيئة آمنة تحترم إنسانية الأطفال من خلال معلمين ومعلمات مؤهلين نفسيًا وتربويًا قبل تعليميًا، ومن خلال مناهج تربوية مستقبلية.. تسهم فى إنتاج جيل يستطيع التعامل مع طفرات العصور التكنولوجية والرقمية. 

 علامة استفهام

صرح د.أسامة الأزهرى «وزير الأوقاف» فى لقائه مع صحفيى الملف الدينى بمقر المجلس الأعلى للشئون الإسلامية فى 31 يوليو 2025 أنه سيعرض على البابا تواضروس الثانى «مبادئ الكتاتيب» لتطبيقها داخل مدارس الأحد فى الكنائس.. مما أثار العديد من التساؤلات وعلامات الاستفهام واللغط والالتباس.. سواء لدى البعض من النخبة المثقفة المسيحية المصرية أو لدى المؤمنين بدولة المواطنة والقانون.. الدولة المدنية المصرية.

التصريح السابق.. ترجمه البعض باعتباره دعوة للتكامل بين المؤسسات الدينية المسيحية والإسلامية المصرية.

وتخوفت الغالبية من أنه يمكن أن يكون إعادة إنتاج ناعم لتديين المجتمع وتطييفه بأدوات مدنية، ومبادرات تتصدر لنا بشعارات التعاون والمشاركة. ولكنها تظل مشروعًا يثير الكثير من التحفظات المشروعة.

 

 إسقاط الحدود

 

 

 

أطرح بوضوح جدًا سؤالًا مشروعًا للوصول لصيغة توافقية حول تصريح د.أسامة الأزهرى.

 

لبيان مدى المشروعية الدينية أو حتى المدنية التى تتيح لوزير الأوقاف أن يوجه مقترحًا بهذا الشكل لمؤسسة دينية لها استقلاليتها وهيكلها ونظامها الخاص. وهو ما يعنى أن السؤال هنا ليس عن النية.. ولكن عن المبدأ؟! هل نحن فى دولة مدنية تحترم الاستقلال الدينى والعقائدى حسب نص الدستور أم أننا بصدد صياغة جديدة من الوصاية الدينية على المجتمع؟

إن مثل تلك الدعوات.. يمكن أن يترجمها البعض على أنها دعوة لتطبيق مبادئ المؤسسة الدينية الإسلامية على المؤسسة الدينية المسيحية؟! وهل يجوز العكس من الأصل؟!

وهو ما يطرح أسئلة أخرى شائكة، على غرار: ما الهدف الحقيقى من هذا الطرح؟

وهل هو تقارب أم تداخل أم احتواء وتذويب؟ وقبل ذلك كله.. ما موقف البابا ورد فعله؟!

والطبيعى، أنه إذا كان وزير الأوقاف.. يستهدف مد جسور التعاون.. فليبدأ بالدعوة لإصلاح التعليم الرسمى، وليس باقتراح يثير الجدل والسجال مع المؤسسة الكنسية المصرية.. بنظامها، ومبادئها، وتاريخها الطويل فى التربية الوطنية والروحية كما نعرف جميعًا.

 مؤسسة دينية أم مرجعية دولة!

أذكر هنا أن الكتاتيب.. تاريخيًا، لم تكن مؤسسات محايدة أو تربوية بحتة، بل ذات طبيعة خاصة.. نشأت كأدوات للحفظ الدينى فى زمن ما قبل التعليم النظامى. وأدت الكتاتيب دورًا مهمًا فى حفظ الأطفال لنصوص القرآن الكريم، ولكنها لم تكن، بأى حال.. تضع مناهج تربوية شاملة، ولم تكن معنية بمبادئ المواطنة أو العلمانية أو التفكير النقدى أو الدولة المدنية.

من أبرز الانتقادات كما ذكرت التى وجهت للكتاتيب عبر العقود الماضية، يمكن تلخيصها فى: التركيز على الحفظ دون الفهم. والعقاب البدنى وغياب البيئة التربوية الآمنة. وغياب أى تدريب أو تأهيل نفسى أو تربوى للمعلمين. فهل هذه هى المبادئ التى يمكن تصديرها لمؤسسة دينية أخرى أم أن ما يحدث هو إعادة إنتاج للثقافة الأبوية السلطوية داخل المجال الدينى على مستوى أوسع؟!

 مشروع التديين الناعم

ما طرحه وزير الأوقاف.. ليس جديدًا على الإطلاق. ولكن ما أخشاه أنه يعيد إنتاج مشروع تيارات الإسلام السياسى الذى دعت إليه لسنوات طويلة بطريقة ناعمة لتديين التعليم، والسيطرة عليه عبر المدخل الأخلاقى التربوى.. باستخدام لغة وطنية جديدة، لكن بأهداف قديمة. وهو ما يعنى أن الدولة قد جرمت جماعات الإسلام السياسى.. غير أن الأدوات الفكرية والدينية لتلك الجماعات.. لاتزال مسيطرة على العقل الجمعى للشارع المصرى.

هل نحن أمام مشروع تديين شامل.. يبدأ بالأطفال؟ وهل هناك نية لتوحيد المرجعية الدينية للمجتمع بأكمله عبر المبادئ المشتركة؟!

 المواطنة ليست شعارات

المواطنة الحقيقية ليست بالشعارات، بل بإقرار الحقوق المتساوية والخصوصيات الثقافية والدينية. أكرر أن ما أخشاه هو أن تستغل مثل تك الدعوات لنجد أنفسنا بصدد دولة دينية رسمية.. أى تحويل الدين إلى أداة من أدوات التغلغل والسيطرة على المجتمع، والتحكم فيه، وإعادة إنتاج النظام الأبوى البطريركى المتسلط.

وفى هذا السياق، تصبح الكتاتيب أداة موجهة، ويصبح الخطاب الدينى مجرد.. واجهة ناعمة لتكريس السلطة الدينية على المجتمع كله.

ترى، هل هذه هى الدولة التى نريدها.. دولة ترفع شعار المواطنة صباحًا، وتمارس الوصاية الدينية مساءً؟!

 تحذير مبكر

أرى أن فكرة الكتاتيب ليست مشروعًا تربويًا، بقدر ما هى مشروع تذويب بطيء لهويتنا المصرية جميعًا. وإذا تم قبول هذا الاقتراح الآن، ستتبعه اقتراحات خطيرة أخرى بعد ذلك. وإذا تم تمرير فكرة تطبيق الكتاتيب.. سيتم فتح الباب للمناهج الموحدة والمبادئ الجامعة حسبما تقضى فكرة الأديان الإبراهيمية التى يتم ترويجها بقوة سواء بشكل مباشر، أو بشكل غير مباشر تحت مسميات تبدو جديدة وبراقة كبديل للحديث عن التطبيع.. على غرار المجالس الدولية للتسامح والسلام الدولى.

 اشتباك مشروع

يمثل هذا المقال اشتباكًا فكريًا مع صديقى د.أسامة الأزهرى الفقيه قبل الوزير.. الذى أثارت تصريحاته مساحة من الالتباس.. حتى لا يتم تأويل ما طرحه بشكل يثير جدلًا فسفسطائيًا لا فائدة منه من جانب، وحتى لا يضع الكنيسة والبابا تواضروس الثانى فى موقف محرج بسبب عدم الرد على أتباعها من جانب آخر.

 نقطة ومن أول السطر

العودة إلى الوراء ليست خيارًا فى كل الأحوال. ولن تبنى الدولة المصرية بالكتاتيب، ولن ينتهى الإلحاد بالحفظ، ولن تنهض مصر بافتراض تذويب الاختلاف.

نحتاج إلى: تعليم مدنى نقدى. ودولة تفصل الدين عن السياسة. ومؤسسات دينية مستقلة. وحريات مضمونة للجميع فى اطار قيم العدالة والمساواة.

ولا يجب علينا أن نترك أطفالنا من جديد لمشروع غير تربوى مرتكز على الطاعة والتلقين لأنه تراجع خطير، لا يليق بدولة تستهدف الارتقاء بالتعليم، وتعلى ولاءها للدستور.. فى سبيل تحقيق الدولة المدنية المصرية.