يجلس على عرش المسرح.. ويفتح قلبه لـروزاليوسف:
يحيى الفخرانى: «الملك لير» باق فى مصر.. وأهلا بالأشقاء العرب فى المسرح القومى

هبة محمد على
عندما تشير عقارب ساعة المسرح القومى إلى التاسعة تمامًا فى ليلة عرض (الملك لير) يسود القاعة صمت مهيب، ويدور فى الأذهان سؤال مُلح، ما الذى يجعل الفنان «يحيى الفخرانى» يعيد تقديم نص «شكسبير» للمرة الثالثة فى زمن غير الزمن؟ زمن تتسارع فيه الإيقاعات، وتتوارى فيه التفاصيل، لكن صوت الفنان القدير القادم من خلف الستائر المخملية المنسدلة على خشبة المسرح، يكسر الصمت.
ينهى حالة التساؤل تلك؛ حيث يطلب من الجمهور – بلطف حازم – أن يغلقوا هواتفهم، وأن يتهيأوا لعبور غير مرئى من عالمنا الصاخب إلى عالم «شكسبير» الساحر، الملىء بالدهشة والصدق والفن الحقيقى.
وما أن يفتح الستار، ويبدأ العرض، إلا وتتلاشى الأسئلة، وتأتى الإجابات فى أداء هذا الفنان الاستثنائى الذى استطاع من خلال عرض (الملك لير) أن يعيد المسرح إلى مكانه الطبيعى فى قلب المشهد الثقافى، وأن يجعل هذا النص الكلاسيكى مرآة لواقعنا، وشاهدًا على كونه فنانًا حقيقيًا لم يبحث يومًا عن دور لكن عن القيمة التى يقدمها من خلال هذا الدور.
وفى حوارنا مع الفنان القدير «يحيى الفخرانى» اقتربنا من تلك اللحظات التى تسبق الدخول إلى خشبة المسرح، وتَحدّثنا معه عن تفاصيل العرض الذى صار واحدًا من علامات المسرح المصرى الحديث، وسألنا «الملك لير» كيف استطاع أن يحتفظ بالتاج يعتلى رأسه كل هذه السنوات؟ وكيف يستطيع كل ليلة عرض أن يوقف عقارب الساعة عند التاسعة فلا تعود أن تعمل مجددًا إلا بعد أن ينتصف ليل القاهرة ويسدل الستار؟.. وإلى نص الحوار.
قدمت مسرحية (الملك لير) للمرة الأولى عام 2001، ثم أعدت تقديمها مرة أخرى عام 2019، واليوم تعود بها من جديد إلى المسرح القومى، السؤال هنا.. لماذا يرفض الفنان «يحيى الفخرانى» أن يخلع عباءة «الملك لير»، ويصر على إعادة تقديمها على المسرح فى مراحل عمرية مختلفة؟
- الحقيقة أننى أحب «ويليام شكسبير» كمؤلف، وهذه الرواية تحديدًا لها عندى مكانة خاصة، وعندما تصديت لتقديمها لأول مرة عام 2001، قرأت أنها الرواية الوحيدة لـ«شكسبير» التى تفشل عندما يتم تقديمها على خشبة المسرح الإنجليزى، وكانت تلك المعلومة تثير اندهاشى، لكننى وجدت تفسير هذا الأمر فيما بعد؛ فقد كُتِبت تلك الرواية فى زمن كان المجتمع الإنجليزى قريبًا فيه من المجتمع العربى فيما يتعلق بعلاقة الأب ببناته، وسُلطته عليهن، فهذه الحميمية التى تربط الأب ببناته، وهذا التصدع العائلى الناجم عن عقوق الأبناء ومعارك الميراث التى تشكل حجر الزاوية فى النص الأصلى ترتبط بموروث راسخ فى مصر والعالم العربى، وباقٍ فيها حتى الآن، لكنه لم يعد له أثرٌ فى الدول الغربية، وهنا يكمن سر فشل هذا النص عندما يقدم فى بلده، بينما يرفع المسرح لافتة كامل العدد فى كل مرة أقدمه فيها، مما يدل على أن العرض يمس الجمهور بالفعل، أما السبب الأهم الذى جعلنى أقدم شخصية «الملك لير» وأنا فى الثمانين من عمرى؛ فهو أن هذه هى سن «لير» الحقيقى، فكما كتب «شكسبير» فى الرواية الملك بلغ سِنه الثمانين وزيادة، وأنا بالفعل بلغت هذا العام الـ 80 من عمرى، وبخلاف النسخة الأولى التى قدمتها وعمرى 56 سنة، والنسخة الثانية التى قدمتها وعمرى 74 سنة؛ فإن هذه النسخة من العرض تمنحنى الفرصة لأعيش الحالة النفسية للشخصية بكل معاناتها وإرهاقها ومتعتها، كما أرادها كاتبها «شكسبير».
لكنك أعدت تقديمها للتليفزيون أيضًا قبل عدة سنوات.. فهل قصدت بذلك الوصول بالنص إلى قطاعات أعرض من الجمهور؟
- بالفعل، حدث ذلك فى مسلسل (دهشة) الذى أخرجه نجلى «شادى الفخرانى» عام 2014، وكتبه المؤلف «عبد الرحيم كمال» اقتباسًا عن مسرحية (الملك لير)؛ حيث تدور أحداث المسلسل حول رجل ثرى لديه 3 بنات، يقرر توزيع تركته عليهن وهو حى يُرزَق، قبل أن يكتشف أنه أوقع نفسَه فى ورطة؛ إذ بدأت بناته فى التنكر له، ونأت كل منهن بنفسها ومالها الموروث عن والدها فى شيخوخته، وقد حقق المسلسل نجاحًا كبيرًا وقت عرضه لذات السبب؛ حيث استطاع المسلسل أن يمس المشاهدين فى المنازل كما الجمهور فى قاعة المسرح.
أخرج المسرحية فى نسختها الأولى المخرج الراحل «أحمد عبدالحليم» وفى النسخة الثانية التى أنتجت للقطاع الخاص أخرجها المخرج الشاب «تامر كرم» واليوم يخرج المسرحية المخرج صاحب البصمات الواضحة فى السنوات الأخيرة «شادى سرور».. ما الفرق بين المخرجين الثلاثة من وجهة نظرك؟
- هذا السؤال لا أستطيع أن أجيب عليه، فلكل مخرج منهم بصمته ورؤيته للنص التى لا أتدخل فيها تمامًا والأهم أن لكل مخرج منهم زمنه، وبالنسبة لى فقد استمتعت بالعمل مع المخرجين الثلاثة.
وما الذى جذبك فى رؤية المخرج «شادى سرور»؟
- لم أكن أعرف المخرج «شادى سرور» من قبل، وعندما طرح علىَّ اسمه؛ طلبت أن أشاهد أعماله، فوجدته مخرجًا متميزًا للغاية وصاحب رؤية، وأكثر ما جذبنى إليه هو أنه (لا يحب الفذلكة) لكنه يُعلى من قيمة النص، وهذا هو جوهر أعمال «شكسبير» الذى تأتى الكلمة عنده فى المقام الأول، مع الممثل، وعلى المستوى الشخصى، وجدته شخصًا دمث الخُلق، وتعاملاته الإنسانية مع المشاركين فى العرض جيدة جدًا، وهذا أمر يهمنى للغاية، والحقيقة أنه كان موفقًا جدًا فى إخراج العرض بشكل لاقى استحسان الجمهور، وهذا هو مقياس النجاح الحقيقى.
هل تدخلت معه فى اختيار الأبطال؟
- (الكاستينج) مسئولية المخرج تمامًا، والحقيقة أننى كنت أثق فى اختياراته تمام الثقة، وقد أثبتت التجربة أنها كانت ثقة فى محلها.
لكن لفت نظرى أن دور «كوردليا» الابنة الصغرى للملك لير تقوم بتقديمه فنانتان بالتناوب كل منهما تقدم الدور أسبوعًا.. لماذا حدث ذلك فى هذا الدور تحديدًا دونًا عن بقية الأدوار؟
- هذا أيضًا قرار يخص المخرج الذى قرر أن يمنح الفرصة لطالبتين من طلاب المعهد العالى للفنون المسرحية، وبالمناسبة فأى عرض مسرحى كبير لا بُد أن يكون له Double casting، هذا ما يحدث فى الخارج، حتى إذا حدث أى ظرف لأى فرد من أفراد العرض لا تتوقف المسرحية، الأمر الذى لا يتوافر لدينا بكل أسف.
فى حواراتى مع أبطال العرض أشاد الجميع بالعلاقة الأسرية التى تقيمها معهم فى كواليس المسرحية.. فما الذى يجعلك حريصًا على خَلق هذه الحميمية مع كل المشاركين فى العرض مَهما كان حجم أدوارهم؟
- المسرح يختلف كثيرًا عن العمل فى السينما أو التليفزيون، ففى المسرح لا بُد أن يكون طاقم العمل أسرة واحدة بالمعنى الحَرفى للكلمة، وأن يتولد لدى كل فرد فى العرض وهو قادم إليه أنه ذاهب إلى بيته، وعلى مدار تاريخى فى المسرح، كنت عندما أجد شخصًا غير مندمج مع المجموعة، وغير قادر على الذوبان فيها أطلب رحيله فورًا عن العرض مَهما كانت قيمته الفنية، ومَهما كانت حاجتنا إليه، عكس السينما والتليفزيون؛ فقد يعمل سويًا فيهما أشخاص على خلاف مع بعضهم البعض ولا يظهر ذلك للجمهور.
لحظة تحية الجمهور فى نهاية العرض كانت كاشفة عن جمهور يقدر الفن الحقيقى، ويزنه بميزان من ذهب.. كيف وجدت جمهور (الملك لير) فى 2025، وأنت وُرِدت عليك أنماط مختلفة من جمهور ذات المسرحية على مدى ربع قرن؟
- هذه اللحظات تسعدنى حقًا، تمامًا كما يسعدنى هذا الإقبال الكبير على العرض من شرائح عمرية مختلفة ومتباينة، لدرجة أننى فى إحدى ليالى العرض حاولت أن أوفر تذاكر لأقاربى لكن عجزت عن ذلك، وكلمت مدير المسرح الذى أبلغنى أن التذاكر نفدت بالكامل وأنه لا يستطيع توفير أى كرسى قبل العرض بساعات، كما جاء إلى المسرح الأسبوع الماضى ممثل عن أحد المهرجانات المسرحية العراقية، وطلب مشاهدة العرض أيضًا، ولكن بسبب نفاد التذاكر أجَّل سفرَه حتى نتمكن من توفير تذكرة له فى يوم آخر.
سمعت أنكم قد تلقيتم عروضًا فى العديد من الدول العربية لاستضافة العرض.. فما هى محطتكم المقبلة بعد المسرح القومى؟
- بالفعل تلقينا عروضًا عديدة من أكثر من دولة عربية، لكننى قررت عدم السفر خارج مصر ما دامت التذاكر تنفد كل ليلة، وطالما أن هناك إقبالاً كبيرًا على المسرحية، والحقيقة أن جمهورى هنا أولَى، ومن يرغب فى مشاهدة المسرحية من الأشقاء العرب فأهلاً به فى المسرح القومى.