الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
حديث خاص  مع الرسول وقفات معاصرة مع صاحب المقام المحمود هل كان العالم يحتاج إلى النبى محمد صلى الله عليه وسلم؟ "الحلقة الثانية"

حديث خاص مع الرسول وقفات معاصرة مع صاحب المقام المحمود هل كان العالم يحتاج إلى النبى محمد صلى الله عليه وسلم؟ "الحلقة الثانية"

السؤال صحيح تمامًا. 



كان يمكننى أن أصيغه على وجه آخر. 

وهو: لماذا كان يحتاج العالم إلى النبى محمد- صلى الله عليه وسلم؟ 

على اعتبار أن هذه الصيغة آمنة تمامًا، ففيها إقرارٌ بأن العالمَ بالفعل كان يحتاج إليه، وليس علينا إلا أن نبحث عن علّة العالم التى تستدعى نبيّا برسالة شاملة وخاتمة، تكتب كلمة النهاية فى قصة عناق السماء بالأرض. 

لكننى سأتمسّك بالصيغة التى يحملها العنوان. 

 وهى: هل كان يحتاج العالمُ إلى النبى محمد- صلى الله عليه وسلم؟ 

أعرف أن علامات الاستياء بدأت تظهَر على وجهك. 

فالسؤال يجب ألّا يُطرَح؛ بل يجب ألّا نُفكر فيه من الأساس، فالنبى- صلى الله عليه وسلم- جاء مكلفًا برسالة من الله إلى الناس، وعليه فمجيئه ليس اختيارًا لا منه ولا ممن استقبلوا دعوته على الأرض، رسالته كانت قدرًا، وليس مع أقدار الله علامات استفهامنا الباهتة.. فلا تجدى معها «هل».. ولا تستوقفها «لماذا».. هى ماضية فى طريقها لا يقدر على اعتراضها أحد. 

قبل أن يزيد استياؤك فيتحول إلى دهشة، ومنه إلى الغضب الذى حتمًا سيفرز اتهامات لا قِبَل لى بمواجهتها، سأقول لك: النبى- صلى الله عليه وسلم- كان تعبيرًا عن ضرورة إنسانية قبل أن يكون نزولاً على كونه ضرورة دينية.

لعلك مثلى أدركتَ الضرورة الدينية للنبى محمد- صلى الله عليه وسلم- مما نقله أبو هريرة- رضى الله عنه- عن النبى- صلى الله عليه وسلم. 

فى الغالب كانت الجلسة جلسة تأمُّل. 

وحتمًا كان مع النبى أصحابُه الذين كانوا يسمعون له ويطيعون، فهو مندوب السماء إليهم، لكن سمعهم وطاعتهم لم تكن تمنعهم من السؤال، كانت الأسئلة هى وسيلتهم للوصول إلى ما عند الرسول، ولم يكن النبى- صلى الله عليه وسلم- ينهاهم عن أى سؤال. 

قبل أن أقول لكم ما الذى قاله الصحابة للنبى- صلى الله عليه وسلم-، ولا بأى شىء رد عليهم، هل تتحملون هذه المفاجأة أولًا؟ 

لم يكن النبى- صلى الله عليه وسلم- يضيق حتى بشكوك أصحابه، ولا بأسئلتهم عن الله- عز وجل تعالى عن ذلك علوّا كبيرًا. 

الراوى معنا هنا هو أبو هريرة- رضى الله عنه-، اسمعوه وهو يقول: جاء ناس من أصحاب النبى، فسألوه: إنا نجد فى أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به. 

فهم النبىُّ ما يرمى إليه أصحابُه، لم يلح عليهم ليسمع منهم ما يعانون منه، فالصمت أجدى من الكلام أحيانًا. 

سألهم فقط: «أوَ قد وجدتموه؟»..

 فلما ردوا عليه بنعم، اكتفى بقوله: «ذاك صريح الإيمان». 

لم يتعالى الرسول- صلى الله عليه وسلم- على شكوك أصحابه وتشككهم، لم يمنعهم من التفكير حتى فى وجود الله، اعتبرر ذلك حقّا من حقوقهم؛ بل تفضّل عليهم- وعلى البشرية كلها من بعدهم- بأن جعل التفكير فريضة. 

المفاجأة هنا ليست فى السؤال، فهو طبيعى جدّا. 

وليست كذلك فى استقبال النبى له، فهو لم يأت هاديًا فقط؛ بل كان مربيًا أيضًا. 

المفاجأة أنه جعل الشك من صريح الإيمان؛ لأنه يعلم جيدًا أن الشك هو الذى يقودنا إلى الإيمان فى النهاية، ويدرك أن الإيمان الذى يأتى بعد شك هو الإيمان الصحيح الواضح وضوح الشمس، لا يستطيع أن يحركه أحد. 

يمكننا أن نسمع إلى أبى هريرة- رضى الله عنه- مرّة أخرى وهو يقول: سمعت النبى- صلى الله عليه وسلم- يقول: لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال: خَلق الله الخَلق، فمن خَلق الله؟ 

لم يتوجّه النبىُّ- صلى الله عليه وسلم- إلى أصحابه غاضبًا منهم رافضًا جرأتهم وتجرؤهم. 

 لم يصرخ فى وجوههم، فلم يكن أبدًا صارخًا؛ بل كان رقيقًا رفيقًا، يضع نصب عينيه «وإن كنتَ فظّا غليظ القلب لانفضُّوا من حولك، فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم فى الأمر». 

 اكتفى النبى- صلى الله عليه وسلم- بأن قدّم علاجًا واضحًا وسحريّا يناسب أصحابَه ويتفق مع عصرهم، قال: «من وجد من ذلك شيئًا فليقل «آمنت بالله». 

فقط «آمنت بالله».. فكل شىء منه وإليه. 

هل نعود مرّة أخرى إلى جلسة النبى مع أصحابه، يمكننا أن نفعل ذلك بعد أن وجدناه صلى الله عليه وسلم لا يضيق بسؤال ولا بمناقشة ولا حتى بتشكيك، فقد كان صدره رحبًا يسع الدنيا كلها. 

كلام النبى يدلنا على السؤال الذى سمعه. 

 قال لأصحابه- كما يروى أبو هريرة: «إن مثلى ومثل الأنبياء من قبلى كمثل رجل بنى بيتًا فأحسنه وجمّله إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون، هل وضعت هذه اللبنة»؟ 

الصورة بديعة. 

البلاغة فى رسم ملامحها لا تخفى عليك.

ومراميها الدينية لا يمكن لأحد أن يتجاهلها. 

فالرسول- صلى الله عليه وسلم- دينيّا ليس منشئًا، لم يأت إلى البشرية وفى يده دين جديد، لم يضع نقطة فى آخر سطر، وبدأ سطرًا خاصّا به؛ بل أكمل السطر بكلمات من نفس المعين، وتمم رسالات جاءت من ذات العين. 

صاحب البيت الكبير هو الله الذى قدّر منذ بداية الخليقة أن خليفته فى الأرض سيحتاج إلى مَن يرشده ويدله، فقسَم له أن يكون له من بين أبنائه رفقاء طريق. 

بنَى الله بيتَ الدين بيده، وظلت فى البيت لبنة، لم تكن ناقصة أو مفقودة، لكنها كانت تنتظر وقتها وحينها، ولما جاء زمانها أرسل الله سفينة النجاة الأخيرة يقودها صاحب اللبنة الباقية الرسول- صلى الله عليه وسلم. 

بجزم يستمد ثقته من تأييد السماء ومباركتها، يقول الرسول- صلى الله عليه وسلم: «أنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين». 

كان السؤال إذن الذى سأله الصحابة هو: أين موقعك من الأنبياء يا رسول الله؟ 

كان الصحابة على ثقة كاملة بنبيّهم، قالوا له وهم أبناء الصحراء «لو خضت بنا هذا البحر لخضناه معك». 

لكن الثقة حتى تتعزز لا بُدّ لها من أسئلة كثيرة، والأسئلة الكثيرة شكلت حوارًا طويلا مكث فيه النبى- صلى الله عليه وسلم- مع أصحابه حتى وفاته. 

ظل سؤال الماهية يصاحبه صلى الله عليه وسلم من أصحابه؟ 

وظل النبى كريمًا مع رفاق دعوته، لم يبخل عليهم أبدًا؛ بل كان يزيدهم من الحديث عنه والكلام فيه، فمن حقهم أن يسألوا، ومن واجبه أن يجيب. 

ليس ليعرفوه فقط.. ولكن ليعرفه العالم من خلالهم.

وليس ليتأكدوا من صدق دعوته فقط.. ولكن ليعلمهم كيف يواجهون العالم من بَعده ويسيرون مع تطوراته وتغيراته. 

الصورة التشكيلية الرائعة التى صاغها النبىُّ معلنًا أنه اللبنة التى أكلمت بناء البشرية الدينى، لم تكن كافية، ألحقها النبى- صلى الله عليه وسلم- بصورة أخرى لا تقل جمالاً ولا تعدم شمولية. 

يقول: «الأنبياء إخوة.. أمهاتهم شتّى ودينهم واحد». 

تخيّل نفسَك تجلس فى ساحة واسعة، أنت الذى يستهدفك الله برسائله المتعاقبة، وبمبعوثيه الذين لا يتوقفون عن السعى بين السماء والأرض، يدخل عليك أنبياء الله واحدًا وراء الآخر، تثق أن أمهاتهم شتّى.. ألسنتهم شتّى.. أقوامهم شتّى.. أزمانهم شتّى.. أماكنهم شتّى.. لكن يبهرك أن دينهم واحد. 

هذه هى القصة كلها إذن.

 ولا أدرى كيف لم يسمع الذين يتحدثون عن ديانات سماوية وديانات أرضية هذا الحديث؟ 

وإذا كانوا سمعوه فكيف لم يعقلوه وينزلوا على حكمه. 

ليس فى الحياة ديانات متفرقة.. كلها دين واحد. 

 وقمة إيمانك أن تؤمن بها جميعًا، وإذا أردت أن تتمسك بإسلامك، فإسلامك ذاته لا يكتمل إلا إذا آمنت بفصول الدين التى جاءت قبل فصل الإسلام.. الذى هو الفصل الأخير. 

هو كذلك بالفعل، الفصل الأخير الذى يستمد خصوصيته من أنه احتضن كل ما سبقه فى تسامح إنسانى مطلق، تسامح يدرك أن تاريخ البشرية الدينى لا يبدأ من هنا، ولكنه بدأ من اللحظة التى ولدت فيها ثنائية «الطاعة - المعصية». 

 طاعة الملائكة الذين خروا سُجَّدًا لآدم لمجرد أن الأمر الإلهى صدر. 

 ومعصية إبليس الذى رفض وتمرّد معلنًا أنه من نار بينما آدم من طين.. غافلاً عن أن من أمَرَ هو الذى خَلق النار والطين.

  من لحظتها وتاريحنا الدينى ينسج على مهل دون أن يفارق هذه الثنائية. 

 تراكمت طبقاته، وتعددت مراحله، وتشعبت طرُقه، وتم الخلط فيه ما بين هو ناسوتى وما هو لاهوتى.. عاش على هوامشه أنبياء وقتلة، ملائكة وشياطين، أطهار وملوثون. 

لقد أمسك النبى- صلى الله عليه وسلم- بكل الكتب السابقة من وحى الله إليه، جاءت رسالته لتقول للبشر هذه نهاية الرحلة بين السماء والأرض، وعلى البشر أن يعتمدوا على أنفسهم بعد ذلك.. لديكم ما يكفيكم، كل ما عليكم بعد ذلك أن تسيروا فى الأرض فتنظروا ما أحدث الله فيها. 

لقد خرجت دعوات كثيرة بعد النبى- صلى الله عليه وسلم-، لم يكن جسده الشريف قد استراح فى قبره عندما خرج من يقولون إن وحى الله آتهم، لكنه كان وحيًا كاذبًا وخادعًا ومراوغًا.

 وبعد قرون خرج من يقول أنه تلقى الرسالة من الله، لكن لم يصمد أحد، فما جاء به النبى- صلى الله عليه وسلم- كان كلمة نهائية وفاصلة، ومن يريد أن يَعبر النهر، فليس عليه إلا أن يسبح فى النهر الذى كان النبى مَصبه. 

قبل أن يتلقى النبى- صلى الله عليه وسلم- الوحى، كانت الأرض قلقة تعيش أرقًا لا يقدر عليه أحد، هذا الأرق الذى قاد آخرين لأن يجهزوا أنفسهم لتلقى كلمة من الله؛ لأنهم رأوا أن الأرض فى حاجة إلى هذه الكلمة. 

ما رأيكم أن أصطحبكم إلى هناك.. إلى الجزيرة العربية، لا تقفوا أمام الأسماء كثيرًا، يكفينا ما قالوه وما وصلوا إليه. 

هذا هو «سويد بن عامر المصطلقى» الذى صدح فى قومه بعقيدة البعث ويوم الجزاء. 

نظر إلى الدنيا من حوله، فأدرك أن الحياة لا يمكن أن تنتهى إلى تراب، فلا بُدّ أن تكون هناك حياة أخرى أكثر عدلاً وانصافًا، يأخذ فيها المظلومون حقهم بعد أن ضنّت به الدنيا عليهم. 

لم يسأله أحد عمّا قاله، ولم يقل هو أنه جاءه به خبر من السماء.. لكنها كانت فطرته السليمة التى فطره الله عليها. 

وهذا هو عامر العدوانى يقول لقومه: «إنى ما رأيت شيئًا قط خَلق نفسه، ولا رأيت موضوعًا إلا مصنوعًا، ولا جائيًا إلا ذاهبًا، ولو كان الذى يميت الناس الداء، لكان الذى يحييهم الدواء». 

بالقرب من عامر العدوانى كان المتلمس بن أمية الكنانى يقف وسط قومه داعيًا إياهم إلى وجهة واحدة، قال لهم: «أطيعونى ترشدوا، لقد اتخذتم آلهة شتّى، وإن الله ربكم ورب ما تعبدون». 

زهير بن أبى سلمى يدخل على الخط، ما رأيكم أن نجلس إلى جواره، وهو يمسك ببعض أوراق الشجيرات اليابسة التى استحال خضارها إلى لون أصفر بائس، ويخاطبها بقوله: «لولا أن يسبنى العرب لآمنت أن الذى أحياك بعد جفاف، سيحيى العظام وهى رميم». 

سبق هؤلاء جميعًا النبى- صلى الله عليه وسلم- بسنوات طويلة، وقبل أن يلتقى بالخبر من السماء مباشرة، يستوقفنا أبو قيس بن أنس الذى قرر أن يعتزل قريشًا وأصنامها، ظل فى داره التى جعل منها مسجدًا لا يدخله طامث ولا جُنُب، وقال على الملأ غير متردد ولا خائف: أنا على دين إبراهيم أعبد ما يعبد. 

ظل أبو قيس فى بيته لا يغادره حتى نزل الوحى على النبى- صلى الله عليه وسلم- فأسلم معه وقال ما قاله. 

لن أغادر بكم هذه الساحة الفسيحة دون أن نقف قليلا مع زيد بن عمرو بن نفيل. 

عاش زيد فى مكة ومات بها قبل بعثة النبى- صلى الله عليه وسلم- بثمانى سنوات. 

كان قلقًا ومقلقًا فى آن واحد. 

 فتح الله عليه، فنبذ عبادة الأصنام، وولى وجهه شطر أبى الأنبياء إبراهيم- عليه السلام-، حمل متاعه القليل وبدأ رحلة طويلة فى الجزيرة العربية والشام والعراق باحثًا عمّن يخلصه. 

فى رحلته علم أن نبيّا سيظهر فى أرضه، قال له أحد أحبار اليهود: ارجع فإن النبى الذى تنتظره يظهر فى أرضك. 

عاد زيد إلى مكة، ستجدونه هناك يسند ظهره إلى الكعبة، ويوجّه كلامه إلى قومه من قريش: يا معشر قريش؛ والذى نفس زيد بيده ما أصبح منكم على دين إبراهيم غيرى. 

 وقبل أن يفيقوا من صدمة كلامه، يقول وهو ناظرًا إلى السماء مُسَلّمًا أمرَه كله إلى الله: اللهم إنى لو أعلم أحب الوجوه إليك لعبدتك به، ولكنى لا أعلم. 

افتحوا معى صحيح البخارى لتقرأوا هذا الخبر. 

فعن عبدالله بن عمر- رضى الله عنهما- أن النبى- صلى الله عليه وسلم- لقى زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح قبل أن ينزل على النبى الوحى، فقدمت إلى النبى سفرة، فأبَى أن يأكل منها، ثم قال زيد: إنى لست آكل مما تذبحون على أنصابكم، ولا آكل إلا ما ذُكر اسم الله عليه. 

كان زيد- والكلام لا يزال لعبدالله بن عمر- يعيب على قريش ذبائحهم، ويقول الشاة خَلقها الله، وأنزل لها من السماء الماء، وأنبت لها من الأرض، ثم تذبحونها على غير اسم الله إنكارًا لذلك وإعظامًا له. 

فى العام 605 ميلادية وبينما كان زيد فى واحدة من رحلاته التى يبحث فيها عن هدى الله، هجم عليه قومه فقتلوه، وقبل أن يسلم الروح إلى الله، سمعوه يقول: اللهم إن كنت حرمتنى صحبة نبيك فلا تحرم منها ابنى سعيدًا. 

كان زيد مستجاب الدعوة، فقد أدرك ابنه سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل النبى- صلى الله عليه وسلم-، وأسلم مبكرًا، وكان مقربًا من النبى. 

هل تريدون دليلاً على أن سعيد بن زيد كان مقربًا من النبى، عودوا بأنفسكم إلى حديث النبى- صلى الله عليه وسلم- عن العَشرة المبشرين بالجنة، ستجدون أن سعيدًا واحد منهم. 

قبل أن يأتى النبى- صلى الله عليه وسلم- بدعوته كانت الديانات قد توالت، والأفكار تعاقبت، والمصلحون يسعون فى الأرض بحثًا عن خيط جديد يربطهم بالسماء، ولذلك كان النبى ضرورة دينية مُلحة، كى يضع كل ما خصته به السماء الأرض فى سبيكة واحدة. 

جاء النبى- صلى الله عليه وسلم- ليقول إن كل ما جادت به السماء على الأرض هو الإسلام بمعناه الواسع، فكل من يولى وجهه إلى السماء طالبًا رضا الله مسلم، وكل مَن يعبد الله على طريقته مسلم. 

هل نعود قليلاً إلى زيد بن عمرو بن نفيل؟ 

ما الذى يمكن أن تقولوه فيه، سيسارع البعض ويقول إنه فى النار، لكن ما رأيك أن تسمع ما قاله النبى- صلى الله عليه وسلم- فيه.  ففى حديث رواه ابن عساكر وحسّنه الألبانى أن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: دخلت الجنة فرأيت لزيد بن عمرو بن نفيل درجتين. 

وهذا أبو سلمة يروى عن أسامة بن زيد عن أبيه زيد بن حارثة أن النبى قال عن زيد بن نفيل: إنه يبعث يوم القيامة أمَّة وحده. 

يالله.. ما كل هذه الرحمة؟ وما كل هذا التسامح؟ وما كل هذه الرحابة؟ 

كان النبى محمد- صلى الله عليه وسلم- ضرورة دينية حتى يتسع بالدين للجميع، جاء حتى لا يحتكر أحد فهم وجود الله، فهو للجميع.. هو وحده من يحاسبهم ومن يعطيهم أو يحجب عنهم عطاياه. 

ستمسك بخناقى الآن وتذكرنى بقول الله تعالى فى سورة «آل عمران»: (ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه وهو فى الآخرة من الخاسرين). 

سأقول لك إننى أحفظ هذه الآية جيدًا، لكن ما رأيك أنت أن نسبح قليلاً فى بحار تفسيرها. 

تعالوا نرجع إلى المفسرين الأوائل. 

هذا هو ابن كثير يقول: مَن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه، أى مَن سلك طريقًا سوى ما شرعه الله فلن يقبل منه، وهو فى الآخرة من الخاسرين، كما قال النبى- صلى الله عليه وسلم- فى الحديث الصحيح: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد». 

وهذا القرطبى يقول: نزلت هذه الآية فى الحارث أخى الجلاس بن سويد، وكان من الأنصار، ارتد عن الإسلام هو واثنا عشر معه ولحقوا بمكة كفارًا، فنزلت هذه الآية، ثم أرسل إلى أخيه يطلب التوبة، وروى ذلك عن ابن عباس وغيره، قال ابن عباس: وأسلم بعد نزول الآيات. 

أمّا الطبرى فيقول: القول فى تأويل قوله «ومن يبتغ غير الإسلام دينًا، فلن يقبل منه وهو فى الآخرة من الخاسرين»، قال أبو جعفر: يعنى بذلك جل ثناؤه ومن يطلب دينًا غير الإسلام ليدين به، فلن يقبل منه، وهو فى الآخرة من الخاسرين، يقول من الباخسين أنفسهم حظوظها من رحمة الله عز وجل، وذكر أن أهل كل مِلّة ادّعوا أنهم هم المسلمون، لما نزلت هذه الآية، فامرهم الله بالحج إن كانوا صادقين؛ لأن من سُنة الإسلام الحج، فامتنعوا فأدحض الله بذلك حجتهم. 

هذه التفسيرات كلها نضعها فوق رؤوسنا، فمَن قالوا بها كانوا يجتهدون على حسب زمانهم، وهم سادتنا وأئمتنا، لكن ما رأيكم أن نقف عند تفسير معاصر لهذه الآية؟ 

أجلس بكم الآن فى مجلس الدكتور العلامة على جمعة، الذى يقرأ علينا الآية نفسها ثم يقول: الإسلام هو دين الله، وهذه الكلمة لها معنيان. 

المعنى الأول لا يريد المسلمون أن يفهموه وبسب ذلك سالت الدماء وحدث الصدام بينهم وبين غيرهم، وهو أن الدين الذى أرسله الله للناس من لدن آدم- عليه السلام- وحتى محمد- صلى الله عليه وسلم- اسمه الإسلام، لكنْ المسلمون لا يريدون أن يُصدقوا ذلك، سيدنا إبراهيم- عليه السلام- قال «هو سَمّاكم المسلمين من قبل»، ما أتى به سيدنا إبراهيم كان اسمه الإسلام، وهو ما جاء به نوح وموسى وعيسى ومحمد.. هذا هو الإسلام. 

يدخل الدكتور على جمعة إلى قلب المشكلة، يقول: تجد من بين المسلمين من يقول لهذا المعنى لا، فالإسلام هو الدين المحمدى وحده، وينكر قوله تعالى (وأن هذه أمتكم أمة واحدة)، ويرفضون أن رتلاً من الرسل كلهم كانوا مسلمين، كلهم دينهم كان الإسلام، رُغم أن العلماء أجمعوا على هذا المعنى. 

ولأن كثيرين من المسلمين يعيشون على أن المعنى- الإسلام هو دين محمد فقط- فقد وضعوا فواصل بينهم وبين الآخرين، وقالوا إن الذى أنزل على محمد هو الإسلام وحده، وإنه هو خير دين، وإنه هو الذى عند الله وحده. 

ويسأل على جمعة: وماذا نفعل فى الآخرين؟ 

يجيب: طبقًا لما يراه كثير من المسلمين، فهم مطرودون، نلغيهم، يحدث هذا رغم أن القرآن ينطق بغير هذا تماما. 

المعنى الثانى الذى يتحدث به على جمعة هو أن الإسلام فى تمامه أتى به محمد- صلى الله عليه وسلم-، لكنه يعقب: هذا المعنى لا يرضى به غير المسلمين، والواقع أن المسلمين لا بُدّ أن يعلموا أن المعنى الأول سوف يفيدهم فى خطابهم مع الناس أجمعين، سيفيدهم فى عرض إسلامهم على الآخرين، فمن المهم أن يقول المسلم للآخرين: أنا مؤمن بك ومؤمن بما تؤمن به، ومؤمن بما هو قبلك. 

يضع على جمعة أيدينا على مساحة مهمة، فالآخرون يفهمون عنا أننا نحاربهم من أجل أن نخرجهم من دينهم إلى ديننا، يفهمون أن هناك صدام قائم ولا بُدّ أن يقوم وأن هذه هى طبيعة الإسلام والمسلمين، رُغم أن القرآن يحدثنا بغير هذا تمامًا. 

القضية الرئيسية التى يتحدث عنها على جمعة هى ما الذى أتى به الرسل، فأغلب أهل الأرض يوافقون عليه. 

نقول لهم إن الإسلام معناه أن لهذا الكون خالقًا، ما رأيكم؟ 

سيقولون: نؤمن أن لهذا الكون إلهًا خالقًا. 

سنقول لهم: هذا الخالق واحد أحد فرد صمد. 

سيقولون: نصدق أن هذا الخالق واحد أحد فرد صمد. 

سيسأل البعض: ما الذى نسمعه إذن عن أن الله اثنان وثلاثة وتسعة. 

يمكن أن يردوا علينا بأن هذه أشياء لها دراسات أخرى، لكن المهم أننا نقول إن هناك ربنا، وربنا هذا عظيم، وهو الذى خلق الكون، وهو الذى أنزل الكتب وأرسل الرسل، وأنه شرع للناس بافعل ولا تفعل، وأوصانا بأن نصلى ونصوم ونفعل الخير، وهناك «الوصايا العَشر» التى أنزلها الله على موسى- عليه السلام. 

ستقول له: ولكنك تنحرف. 

سيقول لك: هذه معصية أقر بها وما نفعله خطأ. 

يجمل على جمعة الأمر بقوله: الإسلام إذن هو أن هناك إلهًا واحدًا خالقًا ورازقًا، وهو الذى سيحاسبنا، وهناك يوم آخر، عندنا اسمه يوم الدين وعندهم اسمه يوم الدينونة، وهناك جنة ونار، وهناك ثواب وعقاب، وعندما تسأل: هل ما سيحدث فى الآخرة روحانى أمْ جسدى؟ فهذا أمرٌ ليس فى أصل الحكاية. 

أصل الحكاية كما يرى على جمعة هو الإجابة على الأسئلة الكبرى التى حيرت البشرية، وأن هناك إلهًا خلق الخلق، وأنه أنزل الكتب وأرسل الرسل وأنه كلف البشر، فوضع لهم حدودًا لا يتجاوزونها، وأن هناك يومًا آخر، وعندما أجلس أمام العالم وأسأل الناس: ما رأيكم؟ سيقولون: نحن نؤمن بذلك. 

أنا ابن هذا العصر ومن حقى أن أتمسك بما قاله على جمعة ابن عصرى، دون أن أنكر أن ما قاله السابقون اجتهاد يجزيهم الله عليه خيرًا. 

يمكننا أن نصل الآن إلى ما نريده وهو أن الرسول- صلى الله عليه وسلم- بشمولية دعوته كان ضرورة إنسانية، جاء ليجمع الناس كلهم على معنى واحد وهو أن لهذا الكون خالق وأن الكتب كلها كتبه والرسل جميعًا رسُله، وليس أمامنا إلا أن نسلم وجهنا له، ومَن لا يسلم وجهه إليه- كلٌّ بطريقته- فلن يقبله ولن يقبل منه عملاً.