عقيدة العقاد!

عبدالله رامى
عندما سئل العقاد ذات مرة: هل الفنون الجميلة من ضروراتِ الحياة؟.. أجاب: «بوسعنا العيش دون مَلكة النظر سبعين عامًا دون أن نهلك، ولا نقدر أن نعيش سبعين يومًا دون الرغيف، ولم يقل أحد لهذا إن الرغيف أهم من البصر.. وبتقييم السوق.. فالرغيف أرخص من الكتاب، والتمثال أغلَى من الثوب.. فقيمةُ الشيء لا تتعلق بقدر الحاجة إليه، بل بقدر ما نصبح عليه إذا حصلناه.. فتحصيلنا الرغيفَ يساوينا بسائر الأحياء، ولكن تحصيلنا الجمال لا يجعلنا أحياء وحسب.. بل يجعلنا بشرًا ممتازين فى أمة ممتازة، تحس وتحسن التعبيَر عن إحساسها».
فى كتاب «عباس محمود العقاد.. مقالات نادرة عن الفنون الجميلة»، الصادر أخيرًا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، يلقى الكاتب والفنان التشكيلى،علاء عبد الحميد، الضوء على اهتمامات العقاد وشغفه بالفنون الجميلة والأعمال التشكيلية؛ مما يفتح المجال أمام دراستها وتحليلها، من خلال المقالات المنشورة بين عامى (1889 إلى 1964)، ويساعد فى فهم علاقة هذا التاريخ بشكل ممارسات الفن المعاصر الآن فى مصر.
غلاف الكتاب هو نفس غلاف أحد الدواوين الأولى للعقاد «عابر سبيل» للفنان شعبان زكى، المنشور عام 1937، ويتضمن الكتاب ثلاثة أقسام: الأول عبارة عن دراسة عن العقاد وعلاقته بالفنون الجميلة، والثانى يحتوى على 30 مقالة نادرة كتبها العقاد عن الفنون الجميلة، والأخير يحتوى على ست مقالات لكتاب آخرين عاصروا العقاد وعلقوا على فلسفته الجمالية، ومنهم من دخل معه فى سجالات فكرية حول الفن.
تشبع مقالات العقاد دفتر ملاحظات صغير له على كل ما زامنه من فنون، سواء كانت تماثيل أو معارض للفنون، وتكشف عن وجود تناقض فى شخصيته، ففى الوقت الذى يدعم فيه الفن وينحاز له، نجده فى مقال آخر يرى أن الفنون يجب أن تعبر فقط عن الأفكار القومية، ويهاجم عمل المرأة بالفن، إضافة لأنه يضع قواعده الخاصة فى التقييم ما يجعله غير منفتح على التجريب، فنجده على سبيل المثال ينتقد لوحة لأن الفنان استخدم اللون الأزرق مع الوردة، وليس مع البحر.
العقاد ونهضة مصر
هاجم العقاد بشدة تمثال نهضة مصر لمحمود مختار، فى مقال يحمل اسم التمثال، الذى وضع فى بادئ أمره فى ميدان باب الحديد، ثم نقل من مكانه بعد ذلك، ووضع تمثال رمسيس.
ويرى العقاد أن فكرته مسروقة «لا يصح لمصر المقدسة بفنونها وآثارها، إذا شاءت أن تصور نهضتها الحديثة، أن تختلس الفكرة التى تصورها بها اختلاسًا من فضلات الفن فى أمة أخرى»، مشيرًا لأن فكرة التمثال مأخوذة من صحيفة مصورة نشرت فى أوائل الحرب العالمية الأولى، وكانت صورة رمزية تمثل موقف انجلترا حيال فرنسا.
ويستطرد العقاد فى مقاله معترضًا على فكرة التمثال: «إننا لا نعلم ماذا تمثل الفتاة فيه؟، وماذا يمثل أبو الهول.. فإذا كان أبو الهول هو مصر الناهضة، فمن تكون الفتاة الماثلة بجانبه؟.. وإن كان أبو الهول هو مصر الأولى فما معنى حركة تاريخها الباقى وهو مصون مجيد سواء نهضت مصر الحديثة أو لبثت قيد الجمود والهوان؟»
ثم يعود العقاد إلى تفسير آخر، فيقول:«إذا كانت الفتاة هى مصر بتاريخها القديم ونهضتها الحديثة فما شأن أبى الهول؟»، ويرى أن فكرة التمثال مسروقة أو مسبوق إليها، وأنها على ذلك غير متقنة، بها عيوب أخرى «فأبو الهول المصور فيه لا يشبه فى شيء من ملامحه أبا الهول القديم الذى بناه الفراعنة، وإنما هو صورة منقولة عما فى معابد البطالسة من هذه النصب».. لا يعترض العقاد فقط على كيفية تمثيل أبو الهول أو عدم إتقان نقله فقط، بل يراه يرمز إلى الجمود والتأخر، وليس النهوض والتقدم.
وطالب العقاد فى مقاله المنشور بجريدة الأفكار، فى أغسطس، 1922، بعدم تنصيب تمثال «نهضة مصر» فى الميادين العامة «ليست هذه الميادين محلا لعرض خطوات التدرج فى تعلم الفنون وترتيب النماذج فى أطوار مرانها، وإنما محلها فى مدارس الفن أو فى المتاحف الخاصة.. أما الميادين فلا تتسع لغير الأعمال الصحيحة التامة التى تُجارى الأمم فى حياتها وتستمد حقها فى البقاء من المقدرة الخالدة لا من التغاضى والمحاباة».
يبرر العقاد نقده بأنه غيرة على التاريخ الطويل للفن المصرى فى مختلف العصور:«لقد كان لمصر فن جليل نشأ فى حجر الموت المقدس والخلود، فخلا من بهجة الفن الإغريقى، ورشاقة الفن البيزنطى، وبذخ الفن الفارسى، وتنسيق الفن العربى، ولكنه امتاز بالضخامة ومسحة الدوام والثبوت، فلم يضارعه فى هذه الميزة فن من الفنون».
وإذا كان ذلك رأى الأستاذ العقاد فى تمثال نهضة مصر، فيا ترى ماذا سيكون رأيه لو رأى تمثال «مصر تنهض» أو ما على شاكلته.. أغلب الظن أن رأى العقاد كان سيكتب قصائد فى أعمال محمود مختار.
المرأة والفنون
فى مقاله المنشور بمجلة الرسالة، يونيو 1943، بعنوان «المرأة والفن»، يقول العقاد: «ليس أضل من الكلام عن الرجال والنساء على السواء»، ويتبع ذلك بحجج تؤيد وجهة نظره فى رفض عمل المراة بالفنون، ويضرب المثل بالشعر:« الشعر أساسه الغزل.. والغزل من عمل الرجل وليس من عمل المرأة.. لأن المرأة خلقت مطلوبة.. تستمع النداء فتجيبه».
ويحصر العقاد المجالات الفنية المسموح للمرأة العمل بها، من وجهة نظره، هما مجالان فقط: الرواية والتمثيل، لأنه يرى أنهما يناسبان قدرة المرأة وطبيعتها الخاصة، بينما لا تخول لها تلك الطبيعة أن تخترق مجالات أخرى.
يرجعنا ذلك لما قاله العقاد فى كتابه «المرأة فى القرآن»: «إن الداعين لتحرير المرأة ومتهمي الرجل بالاستبداد لم يقدموا جديدًا، فقد أثبتوا الحقيقة التى لا مناص منها، وليس عيبًا فى الرجل، ولكنها الحقيقة، فالرجل بطبيعته أقوى، والله قد خلق الكون لحكمة، فالقوى يغلب الضعيف، والمرأة مسخرّة لخدمة الرجل، لأنه متميز عنها.. وبإمكانه أن يستغلها ولا لوم عليه».
كما تحدث فى كتابه عن التكوين الجسمانى الضعيف للمرأة، واصطفاء الله للرجل بالقوة البدنية «إن فضل المرأة على الرجل فى الطهى والتطريز، وبكاء الموتى فقط»، فرؤية العقاد لدور المأة لا تقتصر على الفنون فقط.. ولكنه يراها تابعة للرجل فى كل مناحى الحياة، ما يكشف جانبًا آخر فى شخصيته.. فالرجل الذى يبدو حداثيًا وتقدميًا فى بعض آرائه؛ يضرب المثل على علاقة الرجل والمراة بتسخير الأقوياء والأحرار للعبيد.
جولات العقاد
يتساءل العقاد فى مقاله بجريدة الأهرام عام 1922 «هل يلقى فن التصوير عند جمهورنا ما يستحقه من العطف، أو هو دون ذلك؟» إذ يلاحظ خلال جولته بمعرض الصور قلة العارضين، وقلة المشجعين والمشجعات للمعرض، ويُرجع السبب إلى ما بين الحياتين السياسية والفنية من علاقة ظاهرة فى تلك السنوات.
وفى الوقت نفسه يشير إلى إبداع الفنان أحمد صبرى الذى رسم لوحة «رأس الخفير»، قائلًا: «يخيل لمن يرى هذا الرأس أنه فى غنى عن الحياة، وأن الخفير قد يستطيع عند الضرورة أن يستغنى برأسه هذا المصوَّر عن رأسه المركَّب على جسده».
ثم يضيف قائلًا: «الحق أن الأستاذ أحمد صبرى قد أجاد فى تمثيل رأس الخفير إجادة يهنأ بها الفن المصرى فى هذه الخطوة الأولى التى يخطوها».
كما أعجبته لوحتان لمسيو سكارسللى، ومسيو كمباجولى، الأولى صورة فتاة فلاحة يجرى فى وجهها المُشرق ببشاشة العافية وصباحة الشباب، ذلك الدم العربى المصرى الذى نراه على كثرة فى أقاليم الصعيد الدنيا، وفى قليل من قرى ريف مصر التى يمتزج فيها العرب والفلاحون.
أما الثانية فصورة سيدة أجنبية على ما يبدو من قسمات وجهها، ولكنها تأتزر بالملاءة التركية، وتتلثم بنقاب شفاف تلوح من خلفه ابتسامة كيسة مهذبة يشوبها ملل خفيف قد يكون من ملل الترف والنعمة.
ويواصل العقاد وصفه وإحساسه بهذه اللوحة فيقول: «إنك تقرأ فى كل لمحة من لمحات الصورة أنوثة المرأة التى تريد أن تكون أمًًا، ولا تشبع من إحساس الأمومة، كأنما بينها وبين إشباع هذا الإحساس حائل».
ويتوقف العقاد عند بعض التماثيل المعروضة فى معرض الصور، فيعلق على تماثيل «رقصة البشنين» للأميرة سميحة طاهر، والصور الهزلية التى رسمها العمرى بك بطريقة المكعبات، ولفت نظره لوحة «الدرويش يتوضأ» لراغب عياد، ويصفها أنها «اقتحام على الخيال، وجرأة على التصرف»، بالإضافة للوحة «عزيزة» لمحمود سعيد فكانت حسنة مرضية، ولكن صوره الأخرى كان للعقاد فيها رأى آخر، حيث لم تصب حظها من الإجادة.
وأشار العقاد إلى عدد من اللوحات التى لفتت انتباهه منها «البسفور» لحرم فؤاد سليم بك، كما لفتت انتباهه صور العارضين من الأجانب، ولا سيما صورة «الطفل فى الشمس» لزايريس الإيطالى، و«الشيخوخة» و «عزيزة» و«فاطمة» لجروجوتيس اليونانى، و«الشيال» لكمباجولا الإيطالى، و«ضوء القمر» لبواريه دافنى الإيطالى، وغيرهم.
هكذا كان إحساس العقاد بما يُعرض فى زمنه من صور تشكيلية، فقد كان مواكبًا لحركة الفن التشكيلى ومتابعًا لها، وزائرًا لمعارضها، ومعلقًا على معروضاتها، بما يظهر تفاعله مع تلك الحركة وتشجيعه لها.