
د. ايريني ثابت
الشبحنة
اختلفنا، أستاذى وأنا، على أصل كلمة الشبحنة.. هو قال إنها من «شبيح»، وهى كلمة قديمة أتت لنا من سوريا، حيث كانت تصف رجال العصابات وهم الشبيحة.. واستخدمناها نحن لوصف الفتوة أو الذى يفرض سيطرة على من حوله بالقوة.. أما الشبحنة بمعناها الحالى فهى أن تكون شبحا، وهذا ما قلته لأستاذى.
و«الشبح» ليس من الأموات بل هو حى حياة مختلفة.. هو الجامد والروش والترندى وعمهم كلهم وهو حديث المجموعة أو الشلة والنموذج الذى يحتذى به.. وقد يعطى دروسا مجانية لأصحابه حتى يتعلموا هم أيضا الشبحنة.
كما اكتشفت أن الشبحنة ليست فى مجال الشباب الروش من الملابس والألفاظ والحركات فحسب، بل وفى مجالات شتى تصل حتى إلى مجال الأعمال الجادة.. وبين فئات مختلفة لا تقتصر على طبقة معينة أو عمر معين، ولا تميز بين الرجال والسيدات.
الشبحنة صارت مفهوما للتباهى على الآخرين بتفوقك فى أى مجال دراسة كانت أم عملا.. فأنت قد تكون شبح الدفعة فى الجامعة لأنك تتباهى بقراءاتك المتميزة أو باكتشافك طريقة مذاكرة لم يكتشفها أحد قبلك أو بذاكرتك التى تحفظ ما قاله الأستاذ وعقليتك التى تنبأت بأسئلة الامتحان.. وقطعا ولأنك «شبح»، لن تبخل على أصدقائك بالمشورة والعون لتصير شبحا درجة أولى وماجستير فى الشبحنة.
وقد تكون بالطريقة نفسها شبحا فى العمل أو النادى أو تكونين أنتِ يا سيدتى شبحًا بين صديقاتك ومستشارهن ومعلمتهن المتباهية دائما بالمعرفة والذكاء والألمعية.. جدير بالذكر أن كلمة «شبح» ليست مقتصرة على الرجال كما فى العصور القديمة، بل تستخدم بصورتها دون تغيير للبنات والسيدات أيضا.. وأنا شخصيا لى صديقات ممن يطلق على الواحدة فيهن شبح.
لم تكن «الشبحنة» موجودة أيام زمان، ولا كان الناس «الشبح» يعيشون معنا فى أرض الأحياء.. كان الذى يقرأ، يقرأ لنفسه، والذى يعرف، يعرف ليخدم الآخرين بمعرفته لا ليتباهى عليهم بها.. وكان الذى له بعض أو كثير من القوة أو الذكاء أو السلطة لا يحتاج إلى أن يثبت ذلك لأصدقائه أو مرؤوسيه، لا بالتباهى ولا بالتعالي..
لماذا ظهرت الشبحنة مؤخرا؟ يبدو أن للأمر علاقة بانهيار العالم الحقيقى وحلول العالم الافتراضى مكانه.. وبانعدام الوزن الحقيقى للشخص الحقيقى، حيث لا يوجد مجتمع حقيقى.. وبالتالى صار تهافت الناس على إثبات وجودهم أكثر كثيرا عن ذى قبل.. أنت تسعى لإثبات أنك موجود لأنك قرأت هذا الكتاب أو فهمت تلك المعلومة أو اكتسبت بعض الخبرات.. أنت موجود حين تتفوق على الآخرين فى أى شىء حتى لو كانت صورة الطعام اللذيذ الذى قمت بطهيه تتميز عن صور الطعام العادية وبالتالى تحصل على عدد أكبر من اللايك والقلوب.. أنتِ موجودة حين تعلمين صديقاتك أسرار وضع الميكب التى لم تذكرها ملايين أفلام وضع الميكب على اليوتيوب.
وعلى الجانب الآخر، لا يطيق أحد أن يكون مجرد إنسان عادى يعيش حياة يومية عادية ولا يحصد تعليقات الإعجاب والتشجيع على صوره ومنشوراته وتغريداته.. ولا يجلس وسط أصدقائه فى العمل فى مركز الدائرة وكلهم حوله ينصتون لأسرار شبحنته.. فهو بهذه الطريقة مجرد إنسان عادى ليس له وجود!!! فإن ما يثبت لك وجودك أن يعترف الناس بأنك «شبح»!!!! يا للسخرية!!! يعنى ببساطة لو صرت شبحا تثبت أنك موجود..
أستاذى العزيز.. لقد ولّى عصر الوجود الحقيقى الذى لا يحتاج إلى إثبات.. وولّى زمن كانت فيه كلمة (شبح) تعني: غير موجود.. وصرنا فى زمن الشبحنة وتحول العالم الحقيقى إلى عالم افتراضى وتحول سكان الحياة إلى أشباح!!
«أنا شبح، إذا أنا موجود» مع الاعتذار لديكارت!!