السبت 25 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
البراءة النائمة

البراءة النائمة

ربما كان التعبير عن مفردات الحياة اليومية للأطفال والمعاناة التى يعيشونها؛ وبصفة خاصة العبيد منهم، من أكثر المجالات ثراءً بالنسبة للتصوير الفنى، ورُغم ذلك؛ فإنه لم يصلنا الكثير من الأعمال التى تُعَبر عن هذه الجوانب عَبر فترات التاريخ المختلفة. وكان العصر الرومانى؛ خصوصًا فى مصر ومنطقة حوض البحر المتوسط، من أكثر المناطق الحضارية التى أمَدتنا بنماذج فنيّة مدهشة؛ خصوصًا فى فن النحت ثلاثى الأبعاد، الذى أطلق فيها الفنان العنان لإبداعه الفنى الحُرّ فى تصوير موضوعات أثارت ولاتزال تثير دهشتنا من روعة الإبداع والتصوير النحتى الفريد. 



عَبّر النحاتون فى العصرين اليونانى والرومانى عن الجوانب الشعورية والحياتية لدى الأطفال بشكل لافت للنظر، ولاقت هذه الأعمال رواجًا كبيرًا. وكانت الموضوعات المأخوذة من الحياة اليومية من بين الموضوعات الهللنستية المتكررة. وكانت تقترب فى تصويرها من الشكل القصصى. ومن بين أهم تلك الموضوعات، على قلتها، تصوير حامل الفانوس الذى كان يتناسب فى تمثيله مع اتجاه الروكوكو، وهو الأسلوب الفنى الذى شاع استخدامه فى العصور الوسطى، الذى كان يُفَضَّل بصفة خاصة فى التعبير عن الأطفال فى فن النحت. 

ويُعتبر تمثال الطفل النائم من أجمل التماثيل الوافدة إلينا من العصر الرومانى من مصر وبعض أجزاء الإمبراطورية الرومانية. وعمومًا تم تصوير منظر النوم بشكل متكرر فى جميع العصور بطريقة موحية تبعث على نسيان الإرهاق الذى كان يعانى منه أولئك الأطفال. وكان يتم تصوير أولئك الأطفال من خلال الربط بينهم وبين النوم الهادئ بشكل خاص؛ إذ كان الأطفال أفضل من يُعبرون التعبير الأسمَى عن صورة البراءة. وكان يتم تصوير أولئك الأطفال وهم مصابون بالإرهاق أثناء الاستراحة من العمل المُضنى بطريقة ساحرة توحى بالشعور بالسلام وتضفى عليهم هالة من الغموض والجَمال والجاذبية والسحر. 

وهناك تمثال شهير تم اكتشافه فى مصر من تلك النوعية الفنية النادرة. ويمثل طفلًا يجلس على قاعدة ويتكئ برأسه على يده اليُسرَى، وقد غلبه النومُ، ورأسه يميل إلى اليسار. وتم تمثيل الطفل مرتديًا رادءً يُعرف بـ«هيمايتون» فوق «الخيتون». والهيمايتون له غطاء فوق الرأس مخروطى الشكل.

وكان منتشرًا فى العصر الرومانى. ويرتدى الطفل المُصَوَّر فى التمثال رداءً يسمى «تونيك» بغطاء واقٍ للرأس، أو «كوكولوس»، وهو معطف العمل الذى كان يستخدمه العبيد الرومان حين كانت تسوء الأحوال الجوية خارج البيوت حسب عادة العبيد فى ذلك العصر، تمامًا مثلما كان يرتدى المواطنون الرومان «التوجا». وتوجد ثلاثة خطوط مستقيمة غائرة على رأس هذا التمثال. وتظهر خصلات الشَّعر تحت غطاء الرأس. وتُعَد ثنايا الرداء واضحة فى طريقة نحت التمثال. ويرتدى الطفل صندلًا خفيفًا. ويتميز تصويره الفنى بتنفيذ الأقدام بدقة التفاصيل. 

التمثال له قاعدة دائرية عليها بقايا جزء دائرى، يُرجح أنها كانت دُعامة يستند عليها بيده اليُمنى الطفل صاحب التمثال. والتمثال منحوت من كتلة حجرية واحدة ومُنَفّذ طبقًا لمعايير النحت المتبعة فى ذلك الوقت. والطفل مصوَّر بطريقة تعبيرية فى لحظة غلبه فيها النومُ. وكتلة النحت منفذة بطريقة تشكيلية بارعة. والتمثال منحوت من الرخام. وارتفاعه بالقاعدة 62 سم. ويبلغ محيط القاعدة 81 سم. وقد اكتشفه صياد مصرى على مبعدة كليو مترين داخل البحر الأبيض المتوسط، وتحديدًا فى بحيرة البرلس فى محافظة كفر الشيخ. وكان التمثال معروضًا بمتحف الآثار بمكتبة الإسكندرية العالمية فى القسم اليونانى الرومانى، ثم تم نقله للعرض بمتحف كفر الشيخ الجديد الذى سوف يتم افتتاحه قريبًا للجمهور. 

ويوجد تمثالٌ آخرُ شبيه بتمثال طفل كفر الشيخ تمامًا بمتحف روما الوطنى. وتم العثور على هذا التمثال الصغير فى عام 1909م، ضمن ثمانين قطعة أثرية من الفيلات الريفية فى بلديات بوسكوريل وبوسكوتريكاى وسكفارى، بالقرب من بومبى، التى دمّرها بركان فيزوف عام 79م. ويصوِّر صبيّا رقيقًا صغيرًا مستغرقًا فى النوم أثناء انتظاره لإضاءة منزل سيده. والطفل ملفوف فى رادئه. ويبدو أن الجَوَّ كان باردًا فى الخارج. ولم تكن فى شوارع المدينة إضاءة عامة، إلا عندما كانت تُقام العروض ليلًا فى السيرك أو المسرح؛ لذلك كان من الضرورى الخروج بمصباح أو فانوس، الذى كان يحمله عادة عبدٌ فى صحبة سيده. وكان من الضرورى أن يرتدى العبيد رداء «كوكولوس». 

والتمثال كان يُسمَّى «لانترناريوس»، أى «تمثال لصبى مع فانوس». وكان عادة يتم تمثيله يسبق سيده فى طريقه إلى المنزل. وفى كثير من الأحيان، كان العبد يضطر إلى انتظار سيده فى زاوية من زوايا بعض الشوارع. وكان من المخاطرة أن ينام على الأرض. وكان يتم التعبير عن الأطفال فى هذه التماثيل الفنية النادرة وقد ناموا من التعب وسئموا من الجهود الشاقة التى كانوا يبذلونها طوال اليوم. وفى روما القديمة، كان يوجد فى كل منزل أرستقراطى عدد من العبيد. وكان من ضمنهم الأطفال، ويبدو أن هذا الطفل الخادم كان ينتمى إلى عائلة ثرية؛ إذ تبدو عليه التغذية الجيدة، رُغم أنه كان عبدًا. وهناك تمثال لصبى مع فانوس مشابه لهذا التمثال فى متحف برلين، وآخر فى متحف المتروبوليتان بالولايات المتحدة الأمريكية. 

وعن دلالة ومَغزَى ووظيفة هذه النوعية من التماثيل، اقترح البعضُ أن الأطفال المصورين فى مثل هذه التماثيل كانوا يراقبون مقابر سادتهم؛ حيث كانوا يقومون بتقديم الإضاءة لهم فى العالم الآخر. وكانت توجد على المقابر غالبًا تماثيل جنائزية مماثلة تضىء الطريق للموتى وتقضى على ظلام الموت، وبناءً على ذلك فربما كانت لمثل هذه النوعية من التماثيل وظيفة جنائزية بالغة الأهمية. 

وهناك مَن اقترح، وهو الرأى الأقل احتمالية غير أنه مثير، أن تكون مثل هذه النوعية من التماثيل تمثيلًا لتيلسيفوروس. وكان إلهًا طفلًا مقنّع الرأس ومغطى الجسد وحافى القدمين. وكان يرتدى رداء «كوكولوس» الأكثر شهرة فى العصور القديمة الهللنستية. وكان عبارة عن «عباءة التخفى» المرتبطة أيضًا بالعالم السفلى. وكان يرتديه تيليسفوروس، وتم تبجيله أيضًا بالاشتراك مع إله الطب والعلاج أسكليبيوس اليونانى- الرومانى، كإله معالج كان يزور المرضى فى الليل. وكان يتم تمثيل تيليسفوروس دائمًا على شكل طفل ذكر مقنّع مع عدم وجود ذراعين له أو رجلين مرئيتين.

وفى الديانة اليونانية القديمة، كان تيليسفوروس اليونانى ابن أسكليبيوس، وكان يرافق أخته الرَّبَّة هيجيا كثيرًا. وكان يتم تصويره كقزم. وكان رأسه مغطى دائمًا بقلنسوة. وكان يرمز إلى الشفاء من المرض؛ إذ كان اسمه يعنى «المنجز» أو «جالب الاكتمال» باللغة اليونانية. وتم العثور على تمثيل له بشكل رئيسى فى بلاد الأناضول وعلى طول نهر الدانوب؛ حيث كان لتيليسفوروس معبده الخاص به فى بلاد الأناضول. كما تم الاعتراف به كواحد من الآلهة الشافية فى المعبد الأسكليبى فى إبيدوراس. وقد يكون قد تم تقديم عبادته للعالم اليونانى من قبل أهل غلاطية عندما قاموا بغزو بلاد الأناضول فى القرن الثالث قبل الميلاد. وتم تصويره على عملات معدنية ونقوش قديمة كصبى يرتدى عباءة عريضة وغطاء رأس منخفضًا أو غطاء فريجيان. وكان أحيانًا يحمل لفيفة أو لوحًا فى يديه.

وفى العصر الرومانى، كانت مصابيح الشوارع أسطوانية الشكل، وكان معظمها من البرونز. وكانت للفانوس فتحة علوية، ونوع من الغطاء. وكان يتم إدخال شمعة أو مصباح زيت به. وكان يمكن تزويده بمقبض صلب أو بسلسلة.

وتم استخدام الشموع ومصابيح الطين الصغيرة، المسماة «لوسيرن». وكانت من بين أكثر الأشياء المنزلية شيوعًا لإضاءة المدينة فى روما القديمة منذ ألفَى عام. وتم إنتاج المصابيح فى جميع أنحاء الإمبراطورية. وكان الطلب عليها قويّا، وبالتالى لم يكن المعروض فى السوق قليلًا. وكان جسم المصباح، دائريّا أو بيضاوى الشكل، ومجهزًا بمقبض، وكان يخرج منه فتيل الكتان. فى حين كان يتم سكب الوقود فى فتحة على المصباح لتغذية المصابيح. وكان يتم استخدام زيت الزيتون للفئات الأكثر فقرًا، وفى بعض الحالات اُستخدم الشحم. وكانت مصابيح المواطنين الرومان الأثرياء مصنوعة من البرونز.

واكتشف تمثال لتيليسفوروس فى مولوزان عام 1884م. وهو معروض الآن فى متحف فرنسى. وكان يُعبَد كإله يرافق أسكيلبيوس كابن. وكان تيليسفوروس يشير إلى النهاية، أو إلى الشفاء من المرض. وهناك تمثال له منحوت من الطين من منطقة وسط اليونان القديمة. وتوجد عملة من عهد الإمبراطور الرومانى كراكلا من عام 214م تصوِّر الرَّبَّ تيليسفوروس. وهناك جزء من قاعدة رخامية عليها نقش إهداء لأسكليبيوس ومنحوت عليها منظر لابنه تيليسفوروس من ثاسوس باليونان من القرن الثانى الميلادى فى متحف آثار ثاسوس.

يُعتبر تمثال الطفل النائم من أجمل التعبيرات الفنية عن مفردات الحياة اليومية فى مصر والعالم فى العصر الرومانى. وتم تصوير الطفل النائم بطريقة مبتكرة تشير إلى معاناة ذلك الطفل العبد من العمل طوال اليوم، وظهر نائمًا من شدة التعب فى لحظة فنية معبرة لا تُكَرّر كثيرًا بهذا الجَمال وهذه الروعة.