السبت 18 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
«مجمع الآلهة» فى «كوم الشقافة»

«مجمع الآلهة» فى «كوم الشقافة»

قادت الصَّدفة وحدها فى العام 1900 إلى العثور على كنز أثرى كبير يتمثل فى مقبرة كوم الشقافة، وذلك عندما سقط حمار فى إحدى الآبار فكان بمثابة طرف الخيط الذى قاد الباحثين لاكتشاف العديد من الآثار المهمة والمثيرة، فى الحى الوطنى غرب مدينة الإسكندرية، ويقع حى كوم الشقافة إلى الجنوب من حى مينا البصل. وكوم الشقافة هو الترجمة الحديثة للاسم اليونانى،  وتحريفه اللاتينى،  وسبب التّسمية يرجع إلى كثرة البقايا الفخارية التى كانت تتراكم فى هذا المكان.  



 

ومقبرة كوم الشقافة من المقابر الفريدة فى العالم من طراز catacomb؛ أى المقابر أو الممرات أو السراديب المحفورة فى الصخر تحت الأرض للدفن والتى شاعت فى عصر الإمبراطورية الرومانية. ويرجع تاريخ المقبرة إلى النصف الأول من القرن الأول الميلادى واستمرت فى الاستخدام إلى القرن الرابع الميلادى. 

 

ويتضح من وصف هذه المقبرة أن مدينة الإسكندرية فى العصر الرومانى قد احتفظت بحضارة ذات طابع خاص، وأن روما فضَّلت احترام عادات وتقاليد المصريين؛ حيث نلاحظ وجود العديد من المناظر المأخوذة من مقابر مصر الفرعونية. 

 

ومقبرة كوم الشقافة ذات ثلاثة طوابق من المقابر الأرضية المحفورة فى الصخر التى انتشرت فى روما وغيرها فى القرون الثلاثة الأولى الميلادية. ويتميز تخطيط هذه المقبرة بتناسب الأحجام ووضوح الشكل العام، إضافة إلى أنها تمثل شكلاً واضحًا لامتزاج الفن المصرى القديم مع الفنين اليونانى والرومانى.

 

ودفع تعقيد تخطيط المقبرة مع اختلاف عناصرها الزخرفية العديد من الباحثين إلى أن هذه المقبرة لم تُبنِ مرة واحدة، ويرجع أقدم أجزاء المقبرة إلى المرحلة التى بين القرنين الأول والثانى الميلاديين. ويبدو أن المقبرة كانت خاصة بإحدى العائلات الثرية، ثم استُخدمت بعد ذلك لدفن العامة بعد أن تولى أمرها جماعة من اللحادين. غير أن المقبرة الأساسية لم يحدث بها أى تغيير. 

 

وتتكون المقبرة من مدخل فوق الأرض، وسلم حلزونى يدور حول بئر اسطوانية أو مسقط نور محفور فى الصخر قطره نحو ستة أمتار، ويصل عمقه الحالى إلى نحو عشرة أمتار تقريبًا. والسلم مكون من كتل حجرية مربعة، بها نوافذ مستديرة من أعلى، وتعتبر الواجهة الداخلية من بئر الإضاءة. وكان يتم إنزال جثة المتوفى بالحبال من مسقط النور حتى يصل إلى الطابق الأول. ويبلغ عرض السلم نحو متر وعشرين سنتيمترًا، وسقفه على شكل قبو مكون من خمسة صفوف من القطع الحجرية المتلاصقة. وكان الأحياء يستخدمونه للنزول.. ويتكون الطابق الأول الأرضى من مدخل وصالة مستديرة تسمى الروتاندا وصالة التريكلينوم ذات الأرائك الثلاث، والتى تُعرف اصطلاحًا باسم «صالة المآدب»، إضافة إلى الصالة التى تُعرف بشكل غير دقيق باسم «صالة كاراكلا» والتى كانت جزءًا من مقبرة مجاورة. والمدخل هو عبارة عن مكان صغير مغطى بقبو عند آخر لفات السلم، وعلى جانبيه فجوتان متساويتان مثل المحراب، ولكل منهما مقعد نصف دائرى بشكل الفتحة وله سقف مزخرف على هيئة الصّدفة المحفورة فى الصخر. وزخرفة الصدفة هى زخرفة رومانية انتشرت خلال العصر الأنطونينى،  أى فى منتصف القرن الثانى الميلادى.

 

ويبدو أن هذين المقعدين كانا عاملاً مساعدًا لراحة الصاعد. ويؤدى المدخل إلى الروتاندا التى يتوسطها بئر قطرها ستة أمتار تقريبًا. ويرتكز سقف الصالة على ستة أعمدة. وعلى حافة الجدران كانت توجد خمس رؤوس آدمية انتقلت إلى المتحف اليوناني-الرومانى فى الإسكندرية.

 

وإلى اليسار من الروتاندا، توجد صالة المآدب أو «التريكلينيوم». وكان فيها يجتمع أهل المتوفى لتناول الطعام عند زيارة المقبرة. والصالة عبارة عن حجرة مربعة ذات أربعة أعمدة على الطراز الدورى،  وبها ثلاث أرائك. وإلى اليمين، توجد الصالة المعروفة بالخطأ باسم «صالة كاراكلا». ويرجع السبب فى هذه التسمية إلى اكتشاف عن عدد كبير من العظام التى ظن البعض أنها عظام لآدميين قُتلوا أثناء مذبحة التى قام بها كاراكلا فى الإسكندرية عام 217 م، غير أنه لوحظ بعد فحص هذه العظام أنها كانت تخص خيولًا كانت مدفونة فى هذا المكان بعد موتها فى السباقات الرياضية. كما كُشف كذلك عن نقش للإلهة «نمسيس» ربة الرياضة. وهكذا، فإن هذه الصالة كانت صالة مخصصة للخيول المقدسة، وليست للآدميين.

 

ويقع السلم المؤدى إلى حجرة الدفن الأساسية فى نهاية الصالة المستديرة من ناحية الغرب. وهو سلم مصمم بانحدار شديد ويتكون من خمس عشرة درجة واسعة، الأربع الأول منها يبلغ عرضها مترين وعشرين سنتيمترًا، والدرجات الباقية أقل فى العرض. وسقف السلم مزخرف بنفس زخرفة الصدفة. وفى نهاية السلم، منصة تشبه منصة الملقن فى المسرح، تخفى أسفلها سلمًا كان مغمورًا بالمياه وقت اكتشاف المقبرة. وخلف هذه المنصة دهليز يتكون من عمودين مستديرين فى الوسط يرتكزان على قاعدتين لهما زوايا مثمنة الشكل. وتيجان وقواعد الأعمدة مزخرفة بعناصر نباتية مختلطة من الفن الرومانى والفن المصرى القديم. وفى الجدارين الأيمن والأيسر دعائم مزخرفة بأوراق البردى والأكانتس. وفوق الأعمدة إفريز وعتب منقوش عليه قرص الشمس المجنح بين صقرين. ويعلو هذا العتب إفريز مسننات ثم جزء علوى على شكل قوس يتوسطه قرص شمس.

 

ويلى هذا الدهليز دهليز آخر، على جانبيه تجويفان على شكل ناووس يحتويان على  تمثالين لرجل وامرأة مصنوعين من الحجر الجيرى الأبيض. وقد يمثلان صاحب وصاحبة المقبرة. والوقفة والملابس على الطراز المصرى،  وملامح الوجه وتصفيف الشعر يغلب عليهما الطابع الرومانى. ويلى ذلك حجرة الدفن التى تتكون من باب مصرى الطابع أعلاه كورنيش على الطراز المصرى القديم، يتوسطه قرص الشمس المُجنَّح، وينتهى من أعلى بصف من زخرفة الصل الملكى المقدس.

 

وعلى جانبى الباب، قاعدتان على شكل الناووس المصرى،  يعلوهما ثعبانان كبيران يلبس كل منهما التاج المزدوج. ويرمز هذان الثعبانان لإله الخير فى العالم الآخر «أجاثودايمون». وبجانب كل ثعبان من الخلف كماشة ترمز للإله «هِرمس»، وهو رسول الآلهة ومرشد الموتى إلى العالم الآخر. ومن الأمام صولجان رمز الإله «ديونيسوس». ويعلو كل ثعبان نقش مستدير على هيئة الدرع يتوسطه رأس «الجورجون» أو «الميدوزا»، والتى كانت حسب أساطير اليونان يتحول كل من يراها إلى حجر، وربما كان المقصود بها إرهاب اللصوص وحماية المقبرة ممن تحدثه نفسه بالعبث بالمقبرة.

 

امتزاج الفن المصرى باليونانى والرومانى

 

وحجرة الدفن مربعة وذات ثلاث فجوات، واحدة فى مواجهة المدخل، واثنتان على الجانب. وهناك نحتان بارزان على الجدار الخلفى للحجرة يمثل المعبود المصرى «أنوبيس» بملامح رومانية تمامًا. وسقف حجرة الدفن يستند على أربع دعامات مزخرفة بعناصر فنية مختلطة. وفى كل فجوة من الفجوات يوجد تابوت منحوت فى الصخر. وربما كانت الجثث توضع فى فجوة داخل التابوت من فتحة من الممر الخارجى المحيط بهذه الحجرة. وربما كان السبب فى هذا التصميم هو أن التابوت ليس من الرخام، ولكن من الحجر الرملى. وربما خشى مصمم المقبرة أن يؤثر تحريك التابوت على كيان المقبرة المعمارى،  فجعل التابوت والغطاء كتلة واحدة.

 

والتوابيت من النوع الرومانى وتتكون زخرفتها من فستونات وجماجم الثيران وعناقيد ورأس «الميدوزا». والمناظر على جدران التابوت ذات طابع جنائزى مصرى قديم. وهى منقولة من المناظر الموجودة على جدران مقابر الأقصر من مصر القديمة، وتحديدًا من عصر الدولة الحديثة. وممثل على التابوت الموجود فى مواجهة المدخل زخرفة عبارة عن عقود من الزيتون والغار، يتدلى منهما قناعان، أحدهما ينتمى إلى «سيلينوس»، أحد أتباع العالم الآخر. والآخر يرمز إلى «الميدوزا»، ويعلو العنقود عند منتصفه نحت بارز يمثل سيدة مضجعة، ربما كانت صاحبة التابوت.

 

الإله أنوبيس يلبس رداءً رومانيًا

 

يُزيِّن الجدار خلف التابوت منظر يمثل أوزيريس إله الموتى على هيئة مومياء ترقد على سرير مقدمته على شكل رأس أسد يحمل تاج أوزيريس، ويعلوه قرص شمس. بين رجلى الأسد الأماميتين ريشة رمز ماعت، ربة العدالة. وعند رأس الجثة، يوجد الإله جحوتى ممسكًا صولجانًا بيده اليمنى، وعلامة «عنخ» أو «علامة الحياة» بيده اليسرى. وعند القدمين يوجد الإله حورس برأس صقر وعلى رأسه التاج المزدوج، ويمسك صولجانًا بيده اليسرى، وبيده اليمنى إناءً يخرج منه نبات. ويقف خلف السرير الإله أنوبيس رب التحنيط برأس ابن آوى ويلبس رداءً رومانيًا، ويعلو رأسه قرص شمس بين حيتين، وفى يده اليسرى إناء على شكل زهرة لوتس. وتحت السرير ثلاث أوانٍ كانوبية لحفظ الأحشاء. وتكون عادة أربعة، وعدم وجود الإناء الرابع هنا، ربما يرجع إلى جهل من الفنان، أو ربما لضيق الحيز، أو ربما، وهذا هو الأرجح، إلى وجود الإله أنوبيس الذى يؤدى الدورين هنا: دور إله التحنيط من ناحية، ودور أحد أبناء حورس من ناحية أخرى؛ ويؤكد هذا أن الإناء غير الموجود كان يمثل على هيئة رأس الإله أنوبيس.

 

وعلى جانبى التابوت منظران إلى اليمين وإلى اليسار. يمثل المنظر الأيمن كاهنًا يرتدى جلد الفهد ويضع على رأسه تاجًا ذا ريشتين، ويقدم زهرة لوتس وكأسا لسيدة ربما تكون هى المتوفاة. وتضع هذه السيدة على رأسها شعرًا يعلوه قرص شمس، وترفع يدها كأنها تتقبل التقدمة. وبين الكاهن والمرأة، يوجد مذبح على شكل زهرة لوتس. أما المنظر الأيسر، فيمثل كاهنًا يقرأ أدعية من لفة بردى بين يديه. وأمام هذا الكاهن يقف رجل، هو المتوفى، يمسك بيده اليمنى شيئًا غير واضح المعالم، وربما يمثل قرن الخيرات، ويرفع يده اليسرى على رأسه التى يعلوها قرص شمس. ويفصل الكاهن بين المتوفى مذبح تخرج من جانبيه زهور لوتس. وعلى المذبح إناء صغير يحتوى على نبات أو بخور.

 

ويتوسط واجهة التابوت الأيمن رأس ثور يرمز إلى التضحية أو القرابين. وعلى جانبيه عنقودا عنب يتوسطهما من أعلى رأس «الميدوزا». وعلى الجدار خلف التابوت صُور الإله سيرابيس على هيئة العجل أبيس ويقف على قاعدة، وأمامه هيئة امبراطور يرتدى تاجًا مزدوجًا، ويقدم قلادة «أوسخت»، أى القلادة الواسعة، للعجل، وتقف خلف العجل إلهة مجنحة، ربما تكون الإلهة إيزيس.

 

ويظهر المنظر الجانبى الأيسر للتابوت الإله بتاح على هيئة مومياء ممسكًا بيديه صولجانًا، ويضع فوق رأسه قرص شمس، وأمامه هيئة آدمية، بينها وبين الإله مذبح تخرج من جوانبه غصون على شكل زهرة لوتس، وعلى المذبح إناء. ويمثل المنظر الجانبى الأيمن هيئة آدمية، وأمامها إله برأس كلب، وعلى رأسه قرص شمس.

 

وتشبه المناظر المصورة على التابوت الأيسر تمامًا الموجود على التابوت الأيمن مع بعض الاختلافات مثل وجود أشكال نصف دائرية فوق صورة العجل أبيس معلقة على ما يشبه الحبل، رداء الإلهة المجنحة مزخرف بالحيات المقدسة، أجنحة الإلهة مصورة بدقة ووضوح أكثر من الإلهة الموجودة على الناحية اليمنى.

 

وعلى جانبى التابوت منظران. الأول يمثل إلهًا ربما أوزيريس فى شكل المومياء، وعلى رأسه قرص شمس، وذراعاه متقاطعتين على ظهره. وأمام الإله يقف امبراطور فى زى مصرى قديم يمسك بريشة العدالة وعلى رأسه تاج آتف المصرى،  وبين الإله والامبراطور مذبح. والمنظر الثانى يمثل إلهًا برأس صقر. وعلى رأسه تاج مزدوج، وأمامه إلهة برأس آدمية ترمز إلى الربة إيزيس وتمسك فى يدها صولجانًا، وبين الإله والإلهة مذبح عليه إناء. ويتميز ما حول حجرة الدفن الأساسية بتخطيطه البسيط. وتم تسقيف المسطح. وفى جداره الأيمن نُقر صفان من فتحات الدفن المعروفة باسم «اللوكالى»، ويبلغ عددها نحو ثلاثمائة فتحة.