الجمعة 23 مايو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد امبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد امبابي
زيارة أخيرة.. لأم كلثوم!

زيارة أخيرة.. لأم كلثوم!

تأتى الرواية الثانية الجميلة للشاعر والروائى المبدع الكبير الأستاذ على عطا «زيارة أخيرة لأم كلثوم»، (الدار المصرية اللبنانية، طبعة أولى، القاهرة، 2020م)، امتدادًا واستكمالًا لروايته الأولى البديعة «حافة الكوثر» (الدار المصرية اللبنانية، طبعة أولى، القاهرة، يناير 2017م).



 

وتشكل هذه الرواية جزءًا أساسيّا من مشروع الأستاذ «على عطا» الروائى الخصيب والممتد منذ روايته السابقة التى كانت المنجم الوفير الذى استلهم منه الروائى روايته الحالية، وهنا جعل الروائى المبدع من حياة بطله ومن حياة أفراد أسرته والمهمشين فى إحدى مدن الدلتا الصغيرة، المنصورة، وفى القاهرة؛ حيث يعيش البطل، بؤرة لأحداث الرواية ومفردات السرد السلس فى الحَكْى فى هذه الرواية وفى سياق أكثر فرادة واختلافًا وكثافة وتركيزًا وفى إطار معرفى يراوح بين الماضى والحاضر، وبين الإدراك الكامل والوعى المسلوب والحزن على لحظات الفرح التى فارقت البطل المأزوم دون عودة.

 

وبلغة إبداعية مختلفة ومرهفة للغاية، يدخل بنا الروائى الكبير الأستاذ «على عطا» إلى عالم هذه الرواية بذائقة شاعرية مكثفة مغايرة لنمطية السرد الروائى، ومضيفًا بقوة إلى إبداعية السردى العربى المعاصر. فيبنى معماره الروائى فى 68 فصلًا. وبعد الإهداء الدال إلى الحفيدتين، «حنان شادى وأروى رمضان»، رمزَى المستقبل المشرق وإلى ناس الكوثر زملاء بطل الرواية فى المصحة النفسية، تتصدر الرواية مقولتان للكاتب الكولومبى الأشهَر جابرييل جارثيا ماركيز ورائد علم الاجتماع المفكر العربى الكبير عبدالرحمن بن خلدون. ويعدان مفتاحين كاشفين للرواية ورؤية البطل للحياة ولأحداث الرواية ككل.

 

وتركز أحداث الرواية عن الناس البسطاء والحياة وتاريخ مصر المعاصرة؛ خصوصًا منذ عهد الرئيس الراحل أنور السادات، بطل الحرب والسلام، وإلى الآن. إذ جعل الروائى من التركيز على فترات زمنية من حياة وفترة حُكم الرئيس أنور السادات وبعض من أفراد أسرته جزءًا موظفًا بذكاء وشديد الدلالة فى البنية النصية للرواية.

 

وتقدم الرواية أحداثها فى خط قصصى روائى دائرى الحركة، فى الغالب، ومنذ معرفة البطل برحيل خالته السيدة أم كلثوم، آخر الراحلين من إخوة أمّه الأشقاء وغير الأشقاء، وإلى الذهاب إلى المنصورة لتلقى العزاء ثم العودة إلى القاهرة بعد قضاء ليلتين هناك. وتلقى الرواية بالظلال على الأحداث، ولا تقدم للقارئ كل التفاصيل، لتترك الأمر لمخيلته لاستكمال ما غمض عليه أو ما تعمد الكاتب إغفاله بقصدية ذكية تهدف إلى إشراك القارئ فى إكمال اللعبة الروائية التى برع الكاتب فى توزيع مفرداتها عبر صحفات الرواية بمنتهى البراعة ومكونًا عناصر روايته من قطع صغيرة متجاورة عديدة من الفسيفساء كى تشكل الصورة الكبرى للرواية التى يجب على القارئ إعادة تجميعها وفقًا لمخيلته وثقافته وأساليب الاستقبال لديه.

 

ويخاطبنا البطل والراوى العليم ويخاطب صديقه المغترب فى منفاه الاضطرارى، الطاهر يعقوب، أو يتحدث إليه فى زياراته القليلة إلى القاهرة، بكل ما دار ويدور فى حياته وسيرته من هموم وآمال وأحلام وأشخاص وذكريات. وتدور أحداث الرواية عبر الحَكْى والتذكُّر فى فضاء مكانى يتكئ على أصداء السيرة الذاتية للبطل حسين عبدالحميد على جاد الذى يعمل بالصحافة الثقافية فى «وكالة أنباء المحروسة» وفى جريدة «عرب اليوم»، وحاضره المعيش وبين طفولته ومراهقته وقصة حياته وآلامه وعمله وعائلته فى مدينة المنصورة وعيشه فى القاهرة الكبرى. وعائلة البطل حاشدة ويأتى ذكرها مكثفًا مثل الخالة أم كلثوم التى تحمل الرواية اسمها، والجد الأسطورى الأسطى توفيق يوسف ريحان، والخال الشهيد محمد توفيق، والأب والأم، وبعض من أفراد أسرته الصغيرة فى المنصورة، وغيرهم. وتلعب المرأة دورًا رئيسًا فى حياة البطل مثل سلمى ودعاء ونساء العائلة والبنات والأحفاد، وكذلك للابن هناك دور مهم فى حياة البطل.

 

وزمان الرواية متنوع ومتقطع ومتعدد ويراوح بين الماضى والحاضر، بين ماضى البطل وبين سنواته الماضية. وتدور أحداث الرواية زمنيّا قربًا ووصولًا للبطل وليس ابتعادًا عنه وعن رؤيته للناس والحياة والوقائع والأحداث.

 

فى هذه الفسيفسائية الروائية المائزة شديدة البراعة، نجح الروائى المبدع الأستاذ «على عطا» فى أن يقدم لنا، بكثافة واختزال وشاعرية وسردية موحية وموحشة فى الوقت ذاته، منمنمات الذات والماضى والمهمشين ومصر المعاصرة فى سبيكة روائية لا تتجلى إلا لروائى قدير وشاعر بديع ومثقف كبير مهموم بتاريخ الذات والوطن وتداخل الألم الذاتى مع الوطنى فى حس روائى رهيف يُغنى الروح ويُنير العقل ويُثرى الوجدان. فتحية حب واحترام وتقدير للروائى الكبير الأستاذ «على عطا» على هذا العمل الإبداعى الجميل، وفى انتظار الكثير من إبداعاته الفنية الفريدة المقبلة.