سيدات القصر في مصر البطلميّة
بعد أن استولى الغازى المقدونى الأشهر الإسكندر الأكبر على سوريا وفينيقيا وفلسطين، اتجه إلى مصر التى سلَّمها له الوالى الفارسى دون مقاومة. ومن ثم استقبله المصريون بالترحاب استقبال البطل المنقذ لهم من ظُلم الفرس. وزار معبد الإله بتاح فى العاصمة المصرية الخالدة، منف فى الجيزة الحالية. وقدَّم القرابين للآلهة المصرية كى يكسب ود المصريين. ونصَّب نفسه فرعونًا وفقًا للتقاليد الدينية المصرية العريقة. ووصل إلى شاطئ البحر، عند قرية راقودة، وحينها قرر بناء مدينة الإسكندرية كعاصمة لمصر. فانتقل عرش الحضارة (الإغريقية من أثينا التليدة) إلى مدينة الإسكندرية العالمية قديمًا وحديثًا.
مات الإسكندر الأكبر فجأة فى يونيو عام 323 قبل الميلاد فى بابل بالعراق. وقُسِّمت امبراطوريته بين قواده. وكانت مصر من نصيب بطليموس بن لاجوس الذى أسَّس دولة البطالمة فى مصر، وعندما مات تولى ابنه بطليموس الثانى فيلادلفوس (285-246 ق.م.) الحكم فى سن الشباب. وكان محبًا لحياة النعيم والبذخ. ولم يقد جيشه وترك المهمة لقواده على الرغم من كثرة الحروب التى خاضتها مصر فى عهده.
الملكة أرسنوى الثانية
وإذا كان بطليموس الأول هو الذى أسَّس الدولة البطلمية؛ فإن بطليموس الثانى هو الذى بنى الدولة. واهتم بمدينة الإسكندرية وزيَّنها. وترجع أغلب مبانيها الكبرى إلى عهده. واهتم بجلب الشعراء والعلماء إلى دولته. ونمت مكتبة الإسكندرية نموًا كبيرًا فى عهده حتى صارت أكبر مكتبة فى العالم القديم كله. تزوج بطليموس الثانى من الملكة أرسنوى الأولى، ابنة أحد قادة الإسكندر الأكبر. وأنجب منها ثلاثة أبناء، أحدهم كان ولى عهده وخليفته الملك بطليموس الثالث إيورجتيس. ثم غضب على هذه الملكة وأبعدها عن القصر الملكى ونفاها؛ نتيجة وشاية كاذبة من زوجته التالية والمتآمرة، الملكة أرسنوى الثانية.
على عكس الأعراف اليونانية وإحياء للتقاليد المصرية العريقة بزواج الملك من أخته، تزوج الملك بطليموس الثانى من شقيقته الثانية، وأرملة حماه، الملكة القوية أرسنوى الثانية. وكانت ابنة الملك بطليموس الأول وزوجته الثانية الملكة بِرينيكى الأولى. وحملت من الألقاب الملكية ما يلي: «أخت الملك»، و«زوجة الملك الكبرى» و«أم الملك (رغم أنها لم تكن أم ولى عهد الملك التالى بطليموس الثالث إيورجتيس)».
وكانت الملكة أرسنوى الثانية صاحبة شخصية قوية وذات طموح. وكان لها تأثير كبير على زوجها، وسياسته أثناء حياتها، وبعد مماتها. وكانت أشهر وأقوى امرأة فى فترتها. وكانت أول ملكة بطلمية تُؤله رسميًا هى وزوجها بطليموس الثانى أثناء حياتهما تحت لقب «فيلادلفوس»، أى «المحبة لأخيها» أو «المحب لأخته». وأطلق بطليموس الثانى المحب لملكته بجنون اسم أرسنوى على منطقة الفيوم فى مصر الوسطى.
كان زواج أرسنوى الثانية من بطليموس الثانى هو الزواج الثالث لها. ونظرًا لأنها لم تنجب من بطليموس الثانى، فقامت بتربية أبناء أرسنوى الأولى كأبنائها الذى حكم أحدهم مصر وهو الملك بطليموس الثالث إيورجتيس، بعد رحيل أبيه بطليموس الثانى بعد أن حكم مصر أربعين عامًا. وكانت أرسنوى الثانية ملكة دون منافس لمدة خمس إلى سبع سنوات، والسيدة الأولى دون منازع، وفى أحيان كثيرة كانت تشارك فى السياسة الداخلية والخارجية لمصر؛ إذ من المرحج أنها كانت تشاركه فى الحكم.
رغم عشق بطليموس الثانى لأرسنوى الثانية؛ فلم يكتفِ بها وحدها، فكان له عدد كبير من المحظيات الجميلات. غير أنه بعد وفاتها، قام زوجها، الحزين على حبيبة قلبه، وسميرته، وخليلة حكمه، بتأليهها وأطلق عليها الصفات التى توضح تأثرهما الشديد بديانة المصريين القدماء، فأصبحت «ابنة (رب الأرباب) آمون» و«ابنة (رب الأرض) جِب». ووضع الملك تماثيل لها فى المعابد المصرية الكبرى كى تُعبد فيها مع آلهتها المصرية المعروفة. وظهرت فى هذه التماثيل، وعلى العملات، والأوانى غالبًا، مصوَّرة كملكة فرعونية ترتدى الباروكة الثلاثية الأجزاء ذات الخصلات المصفوفة، وتضع حية الكوبرا المزدوجة على رأسها كى تميز نفسها عن الملكات التقليدات السابقات عليها من أسرتها البطلمية.
واستغل بطليموس الثانى زوجته وأخته المؤلهة أرسنوى الثانية كى يزيد من شعبيته بين جموع الشعب المصرى. وفى الإسكندرية، فى العصر التالى،العصر الرومانى، ازدهرت عبادة الملكة أرسنوى الثانية.
الملكة بِرينيكى الثانية
كانت الملكة بِرينيكى (أو برنيقة فى نطق آخر) هى زوجة ثالث الملوك البطالمة، الملك الشهير، بطليموس الثالث إيورجتيس (246-221 ق.م.).
واستمر زوجها الملك بطليموس الثالث على سياسة والده، والذى كان شريكه فى الحكم عام 247 قبل الميلاد. وكان ملكًا نشيطًا عسكريًا مثل جده بطليموس الأول. وتوسّعت مصر فى عهده وشملت أجزاء من سوريا وليبيا والنوبة الشمالية.
وفى عهده، حافظت الإسكندرية على مكانتها كأكبر مركز للعلم والثقافة. وظل قصره مقصد الأدباء والعلماء من جميع أنحاء العالم اليونانى. وحاول إصلاح التقويم المصرى بإضافة يوم سادس للأيام الخمسة فى التقويم المصرى القديم. ولكن هذه المحاولة أُهملت من بعده حتى تم تطبيق هذا الإصلاح فى العصر الرومانى فى روما مع يوليوس قيصر، ومع الإمبراطور أغسطس فى مصر عند احتلاله لها عام 30 قبل الميلاد. وحاول تحديد بداية التاريخ البطلمى،وتاريخ الدولة البطلمية المستقلة فى مصر، وهو عام 311 قبل الميلاد، عام وفاة الإسكندر الرابع، ابن الإسكندر الأكبر ممثل السلطة الشرعية المركزية.
اكتفى الملك بطليموس الثالث بالملكة بِرينيكى الثانية كزوجة واحدة له فقط، على عكس والده الملك بطليموس الثانى الذى تزوج غير أمه. والمثير فى حياة هذه الملكة قصة زواجها الأول قبل بطليموس الثالث. فبعد وفاة والدها مباشرة، تزوجت من الأمير المقدونى المعروف باسم «ديمتريوس الجميل». لكن بعد أن جاءت إلى قورينى، وقعت أمها «آباما الثانية» فى غرام زوجها ديمتريوس الجميل، ونشأت بينهما علاقة آثمة، فما كان من بِرينيكى إلا أن قتلت ديمتريوس الجميل فى فراش أمها التى عاشت بعد ذلك!
لم تنجب بِرينيكى من ديمتريوس الجميل، غير أنها كُوفئت بزواجها من بطليموس الثالث الذى أنجبت منه حوالى أربعة أبناء وبنتين، كان أهمهم ولى عهده وخليفته الملك بطليموس الرابع فيلوباتور (221-205 ق.م.). وحملت الألقاب التالية «أم الملك» و«أخت-زوجة ابن رع»، ويظهر هذا تأثرهما بالديانة المصرية القديمة. وتم تصويرها فى فن الموازييك السكندرى كممثلة لمدينة الإسكندرية الخالدة. وربما حكمت مصر نيابة عن زوجها بطليموس الثالث نحو خمس سنوات أثناء غيابه فى حربه السورية. وكانت فارسة، ويقال أنها كانت تعتلى ظهر الخيل وتشارك فى أرض المعارك إلى جوار زوجها بطليموس الثالث.
بعد وفاة زوجها بطليموس الثالث عام 221 قبل الميلاد تم قتلها أثناء الإعداد لتولى ابنها العرش، والذى ربما كانت شريكته فى الحكم، وتم تأليه بِرينيكى الثانية وبطليموس الثالث أثناء حياتهما تحت لقب ملكى يمجِّد الملك والملكة، وهو «إيورجتيس» بمعنى «إلهان خيران».