
عاطف بشاى
الأديب المتشائم
كان «المازنى» ذلك الأديب الساخر والشاعر الفيلسوف.. يائسًا وحزينًا ورومانسيًا بالغ التشاؤم.. وجودى النزعة.. ذا تركيبة نفسية دقيقة.. يشبهه «أنيس منصور» بأنه مثل نسيج الحرير.. دقيق العقد.. فقد أحس منذ الصغر أنه ضئيل الحجم، بينما إخوته أطول وأعرض وأجمل شكلًا؛ حتى إن والده كان يخاف على أخ له من الحسد.. أما «المازنى» فلا خوف عليه.. ولا خوف منه.. كأنه لا شيء.. أو كأنه أسوأ شيء.. ثم أنه سقط فانكسرت ساقه فهو القزم الأعرج.. وكان حجمه الضئيل يجعله مثل «صفر» إذا سار إلى جوار رقم (1) الذى هو «العقاد» صديقه الصدوق.. وكان الناس يسمونهما معًا: العشرة.. وكان «المازنى» يعيش فى حالة دائمة من الخوف والقلق، يسلبانه أى متعة فى الحياة.. خوف غامض.. وقلق غريب يمتدان من نفسه إلى العالم من حوله، ليشملا الوجود كله.. فهو عاجز عن السيطرة على خوفه وقلقه، بل إنه يجاهر بهما.. فهو يحكى مثلًا عن تلك الحارة التى كانت تنتهى إلى بيته.. أنها مظلمة وضيقة.. يدخلها الناس بصعوبة، حتى إنه أحس فى إحدى المرات وهو يتسلل خائفًا من تلك الحارة، أنه اصطدم بجسد امرأة.. وأنها احتضنته حتى وصل إلى باب بيته ولم يجدها بعد ذلك.. وكان يحس أن هذه الحارة ليست إلا أمعاء حيوان خرافى مخيف.. وإذا كان القلق هو أحد الأمراض العصابية الشائعة وأكثرها انتشارًا.. وهو حالة مستمرة من العذاب.. فما بالك وقد امتزج بالخوف؟ يصف «المازنى» خوفه وقلقه المرضى بأنه بدأ خفيفًا محتملًا.. لكنه تفاقم على أثر سقوطه فى ظلمة الليل فى قبر خرب.. تعلقت بى، فيه العظام النخرة، فخرجت منه حين خرجت بوجه ميت وأعصاب مخبول.. وصرت بعدها أتوهم الموت فى كل شيء.. حتى كنت أدعو أهلى أن يحفوا بى ويمسكونى، لأنه كان يكبر فى وهمى فى تلك اللحظات المشئومة أن شئيًا مرعبًا سيحدث لى وأن قوة مخيفة ستخطفنى. وهكذا فإنك إذا أردت أن تتحدث عن التشاؤم فلن تجد خيرًا من «المازنى» نموذجًا له.. وإن كان «العقاد» يرى أنه تشاؤم غير الكاره للحياة، ولكنه تشاؤم العاطف الذى يرثى للناس من تعسف المقادير.. ويحب لهم حياة خيرًا من هذه الحياة أقل تعاسةً وشقاءً.. «وللمازنى» قصة طريفة تعكس، كما يرى «رجاء النقاش»، واقعًا اجتماعيًا وعاطفيًا كان يعيش فيه الجيل الرائد من أدبائنا.. حيث كانوا يعملون بإلهام داخلى نابع من ذاتهم.. فلم يكن المجتمع قد سمح بعد للمرأة بالخروج إلى التعليم والعمل ومن ثم المشاركة العقلية والوجدانية للرجل.. فقد وصلت «للمازنى» رسالة إعجاب وود من قارئة تطلب منه بعض كتبه لتطالعها فى شغف.. ووقعت على رسالتها بـ«إحداهن واسمها فاخرة»، فرد عليها بمجموعة من الرسائل التى توهم أنها تصلها مع خادمها الذى يأتى بالرسائل منها ويأخذ الرد.. وبدأ «المازنى» فى التعلق بها.. وبدأ قلبه يهفو إلى حب تلك الملهمة التى داعبت عواطفه وكشفت بنوع من «التعرية النفسية» عن حقيقة ما كان يعانيه من جفاف عاطفى مفروض عليه وعلى زملائه بسبب ذلك المجتمع المغلق الذى كانوا يعيشون فيه، والذى لم تكن تهب فيه نسمة من نسمات الوجدان الصادق أو المشاعر الإنسانية التى كان لا بد منها كغذاء أساسى لوجدان هؤلاء الأدباء الحساسين الذين عاشوا حياتهم فى فراغ عاطفى أليم. وبعد شهور من كتابة «المازنى» رسائل حب ملتهبة لهذه السيدة المجهولة يقول فى إحداها «أنى أتمنى أن أنقلب زفرة.. تنهيدة تطير إليك على جناح النسيم وتشعرك بما فى قلبى.. إن حبى لك مفخرة لى.. ورفعة لنفسى وسمو».. يكتشف «المازنى» أن الشاب الذى كان يحمل إليه رسائل المرأة المجهولة ويدعى أنه خادمها يخدعه.. وأنه هو نفسه الذى يكتب تلك الرسائل.. وقد انتهى به الأمر إلى أنه ذهب بما حصل عليه من رسائل «المازنى» إلى إحدى المجلات لنشرها.. وادعى أن دافعه إلى ذلك هو أن يحصل على رسائل أدبية راقية من «المازنى» عن طريق تحريك عواطفه وأنه لم يكن يقصد إيذاء الكاتب الكبير ولا جرح مشاعره.