مــن حـفـر حـفـرة وقــع فـيهـا!

رشاد كامل
تجوع «الحرة» ولا تأكل بثدييها!
وتجوع «الصحافة الحرة» ولا تأكل بالخضوع لقوى الاستبداد والظلام!
وكل من حفر حفرة لأخيه وقع فيها!
وكل من حاول أن يحفر لـ «روزاليوسف» حفرة وقع فيها!!
وما أكثر «الحفر» التى حاولوا حفرها لـ«روزاليوسف» سواء فى العصر الملكى أو العصر الجمهورى.
روزاليوسف قصيدة الصحافة العربية المقاتلة، الجسورة، الجريئة المستنيرة، ومن يحاول أن يحفر حفرة لقصيدة فليس ذلك علامة قوة وإنما هو علامة خوف ودلالة فزع مما تمثله هذه القصيدة - أقصد روزاليوسف!
مصطفى النحاس
تمضى سنوات، وتجىء سنوات، يذهب أشخاص ويجىء أشخاص، تذهب أنظمة وتجىء أنظمة، وتظل روزاليوسف قصيدة فى زور أعداء الحياة والظلام والاستبداد، الذين احترفوا التكفير وخاصموا التفكير!
سـر وقـــوة «روزاليوسف» أنها لم يصدرها حزب أو تنشئها سلطة، بل كان كل حزب يطلب رضاها، وكانت كل سلطة تخطب ودها!
وصل الأمر أن جريدة السياسة لسان حال حزب الأحرار الدستوريين خصم حزب الوفد، أطلقت على الوفد اسم «حزب روزاليوسف» وكما تقول السيدة روزاليوسف فى مذكراتها البديعة «ذكريات»: لم يجد مصطفى النحاس فى هذه التسمية غضاضة، بل وقف مرة يخطب فى حشد من أنصاره فقال إنه يفخر بأن يكون الوفد حزب روزاليوسف المجلة المجاهدة الشجاعة التى لا تبالى بالاضطهاد!
وأذكر أننى التقيت بعد ذلك بالأستاذ أحمد عبدالغفار من أقطاب الأحرار الدستوريين فقال لى: أنت مش حتتركى الوفد وتنضمى لنا؟؟! فقلت له: ويبقى اسم الحزب «حزب روزاليوسف»؟ فضحك بصوته العريض وقال: قابلين يا ستى نبقى حزب روزاليوسف!!
تعددت الأسباب والمصادرة واحدة!
منذ صدرت روزاليوسف فى 2 أكتوبر سنة 1925 وحتى ثورة يوليو 1952بلغ عدد النسخ التى صادرتها الحكومات المختلفة حوالى مائتى وثلاثة وأربعين ألفاً وستمائة نسخة، هذا غير الأعداد التى كانت تمزق بعض صفحاتها بمعرفة الحكومة والرقابة!
كان أول عدد يصادر فى 30 يونيو 1928 فى عهد الأحرار الدستوريين بسبب كاريكاتير يمثل رئيس الوزراء «محمد محمود باشا» يدوس على الدستور وهو صاعد إلى مقعد الوزارة وتعليق يقول: من أجل الوزارة تداس مصر ويمتهن الدستور!!
وفى سطور بالغة الدلالة تقول السيدة روزاليوسف: إن روزاليوسف فى السنتين الثالثة والرابعة من عمرها - من أكتوبر عام 1927 إلى أكتوبر سنة 1929 كان المفروض أن يصدر منها 104 أعداد باعتبار أن السنة 52 أسبوعا ولكن روزاليوسف لم يصدر منها فى هذه المدة إلا 42 عددا وصودر 62 أى أن ما صودر منها كان أكبر مما صدر!! وكانت الوزارة لا تصادر المجلة إلا بعد أن يتم طبع جميع النسخ حتى تكون خسارتها المالية كبيرة.
وتفننت الحكومات المتعاقبة فى محاولات كتم صوت روزاليوسف، من المصادرة إلى تمزيق الصفحات إلى استئجار بلطجية للاعتداء عليها، إلى إعلان حزب الوفد الشهير بأن روزاليوسف لم تعد معبرة أو تنطق باسمه، لكن أغرب ما حدث لروزاليوسف عندما فوجئت بصدور القرار بتوقيع الحجز على ملابسها الداخلية!! وفى عهد حكومة النقراشى باشا يتم القبض على السيدة روزاليوسف وتودع فى زنزانة، وكانت فضيحة ما بعدها فضيحة وشنت الجرائد الأجنبية حملة عنيفة على الحكومة لوضعها سيدة صحفية فى السجن، وتقول روزاليوسف:ووجدت الحكومة نفسها تحت ضغط أدبى قوى يدعوها إلى الإفراج عنى!!
لقد وصفها الكاتب الكبير مصطفى أمين بقوله: كانت السيدة روزاليوسف امرأة شجاعة، إذا أقدمت لا تخاف، وإذا حاربت استمرت فى المعركة حتى ولو سقطت على الأرض، لا تعرف المهادنة، وتكره التراجع وتمقت الفرار، وكانت امرأة عصبية لا تتحمل أن يمس أحد جريدتها أو يقف فى طريق انطلاقها، كانت تنفجر فيه كالنمرة!
تقول روزاليوسف: حدث أن أقمت حفلة بمناسبة عيد ميلاد المجلة، دعوت إليها كل زعماء المعارضة، وفى اليوم التالى جاء الأستاذ كريم ثابت «المستشار الصحفى للملك فاروق» يقول إنه جاء حاملا تحية الملك وتهنئته للمجلة بهذه المناسبة بشرط ألا تنشر هذه التحية!
واستبدت بى ثورة هائلة واتصلت بأحمد حسنين «رئيس الديوان الملكى» فى التليفون وقلت له: هل صحيح أنك كلفت «كريم ثابت» بأن يقول لى كذا وكذا! فاعترف محاولا أن يخفف المسألة ولما تمسكت بأن أعرف السبب قال لى:
لأن مجلتك لونها فاقع فى مهاجمة الإنجليز وأنت عارفة الظروف!
وزادت ثورتى وقلت له: قل لمولاك أننى فى غنى عن هذه التحية وأننى أرفضها منشورة أو غير منشورة!
وأبلغت نفس الرد للأستاذ كريم ثابت!
كانت روزاليوسف مجلة مبادئ وأفكار لا مجلة أشخاص وأحزاب، مجلة وقفت مع الناس لا ضد الناس، مع المستقبل لا الماضى، انحازت إلى التفكير لا التكفير، وكانت مقالاتها ورسوماتها بمثابة المدفعية التى دكت حصون الفساد وقلاع الاستبداد ومهدت الطريق لثورة يوليو 1952 ويكفيها فخرا حملة إحسان عبدالقدوس عن الأسلحة الفاسدة.
وانحازت «روزاليوسف» إلى ثورة يوليو وقائدها «جمال عبدالناصر» الذى تعود صداقته بإحسان عبدالقدوس إلى أيام ما قبل الثورة، وكما سجن إحسان أيام الملك فاروق سنة 1945 بسبب مقاله عن اللورد كيلرن المندوب السامى البريطانى، سجنته الثورة التى نادى بها وساندها بسبب مقالاته الشهيرة وعلى رأسها «الجمعية السرية التى تحكم مصر» ثم مقاله «مصير الثورة ومصير رجال الثورة» وظل إحسان فى السجن الحربى لمدة ثلاثة شهور منها شهر حبس انفرادى وكانت التهمة الموجهة له: العمل على قلب نظام الحكم!
ويقول إحسان معلقا: لم تنهر أمى ولم ترج أحدا فى الإفراج عنى بل اتخذت قراراً خطيراً بمقاطعة الثورة فى مجلة روزاليوسف فلم تكتب أى كلمة على الحكومة أو الثورة خلال مدة حبسى وحين سمح لها بزيارتى فى السجن بعد شهرين من حبسى قالت لى بثبات وبنبرة حازمة: اثبت خليك قوى ولا يهمك أنت الآن فى السجن هنا مثلما تكون خارجه هناك ولا فرق ويجب أن تثبت على موقفك.. كن قويا يا إحسان!
وفى أزمة مارس 1954 الشهيرة انحازت كتيبة روزاليوسف إلى الديمقراطية بدون تردد، وفشلت الثورة فى ترويض روزاليوسف، وعلت صيحات تدعو إلى تطهير الصحافة من أعداء الثورة، وتم حـل نقــابة الصحــــفيين فـــى 16أبريل 1954وأذاع صلاح سالم بيانا بأسماء الصحف والصحفيين زعم فيه بأنهم كانوا يتقاضون مصاريف سرية من حكومات ما قبل الثورة وكانت روزاليوسف - السيدة والمجلة - وإحسان عبدالقدوس من بين هذه الأسماء، وبطبيعة الحال فلم يصدق أحد هذا الادعاء الكاذب!
وكانت السيدة روزاليوسف أول من اعترض على بيان وزير الإرشاد القومى وردت عليه بشجاعة رافضة الاتهام وأكدت أن ما تقاضته لم يكن مصروفات سرية بل كان تعويضات دفعت للمجلة عن الأعداد التى كانت الحكومات تصادرها!
ومن أغرب وأعجب ما جرى فى تلك الأيام توجه وزير الإرشاد - الإعلام - صلاح سالم إلى دار صحيفة المصرى وجرى بكرباج خلف المحررين فهرولوا وراحوا يجرون فى شارع قصر العينى فى وضع مهين!
وبنهاية أزمة مارس 1954 بدأت حملة تطهير مصر من المصريين أعداء الثورة سواء فى الصحافة أو الجامعات أو القضاء أو.. أو..
لقد وصف الروائى الكبير «فتحى غانم» ذلك المناخ بقوله: «أطبقت الكماشة على الصحافة والجامعة تحاصر الفكر والرأى وكانت مذبحة للعقول، وثمنا باهظاً تحمله المصريون وقبلوا التضحية به ورفعوا «عبدالناصر» إلى مرتبة الزعامة الحقيقية وكان أملهم مرة أخرى أن يبدأ عهد جديد وأن يتراجع السيف ليبنى القلم».
وعن تلك الأيام كتب إحسان عبدالقدوس يقول:
كانت الصحافة أيامها لم تؤمم بعد وكانت الرقابة المفروضة عليها ثقيلة عنيفة، وكنت أنا صاحب روزاليوسف وحتى أهرب بنفسى وبروزاليوسف من ثقل الرقابة كمشت صفحاتها السياسية، وفتحت صفحات أوسع للمواد الاجتماعية والأدبية!
وكنا أيامها نتحمل كل هذا الثقل لأن الثورة كانت تخطو خطوات ناجحة قوية وكان عبدالناصر فى أزهى انتصاراته بعد تأميم القناة وفشل الاعتداء الثلاثى حتى أصبح الكثيرون منا يعطونه الحق فى كل شىء حتى فى فرض هذه الرقابة العنيفة، إن النجاح يبرر كل الأخطاء!
وكانت لقاءاتى الشخصية بعبدالناصر قد تباعدت كما تتباعد دائماً مع أى رجل مسئول لأنى غالباً لا أستطيع أن أساهم فى تغطية مطالب المسئولين وأصبحت آراؤه الخاصة فيما ينشر بروزاليوسف تصلنى إما عن طريق الرقابة أو عن طريق أصدقاء مشتركين، وعبدالناصر رغم ما كان عليه من تفتح فكرى كان فى أحيان كثيرة يبدو متحفظاً إلى حد التزمت فى اختيار الكلمة التى تقال والموضوع الذى يبحث حتى خارج مجال السياسة، ولذلك فعندما تعمدت إهمال السياسة والتفرغ للأدب لم أسلم من تزمت عبدالناصر!
ويبدو أن عبدالناصر أيامها كان يقرأ قصص البنات والصيف التى كنت أنشرها فى روزاليوسف فأرسل لى عدم موافقته على ما ينشر أو على الأقل عدم رضائه، وفى الوقت نفسه كنت قد فتحت فى روزاليوسف صفحات للأبحاث الدينية، وكان زميلى الدكتور «مصطفى محمود» فى مرحلة معينة من مراحل فكره الدينى وكان ينشر دراسات دينية اعترض عليها أيضاً «جمال عبدالناصر».
ليس سراً أنه قبل صدور قانون تنظيم الصحافة فى 24 مايو سنة 1960 كان الأستاذ إحسان عبدالقدوس قد كتب مطالباً بتأميم الصحافة لأن الرقابة كانت قد وصلت إلى حد أن أصبحت الصحف أقرب فعلاً إلى ملكية الدولة».
ويواصل إحسان عبدالقدوس نشر رواياته، وبينما كان ينشر فصول روايته «أنف وثلاثة عيون» مسلسلة فى روزاليوسف قام أحد أعضاء مجلس الأمة، «عبدالصمد محمد» بتوجيه سؤال إلى المجلس الذى كان يرأسه «أنور السادات» حول الرواية التى تفسد الشباب وطالب بإيقاف نشرها وعدم طبعها فى كتاب أو تمثيلها أو إذاعتها!
وانضم إلى الحملة عضو سابق بمجلس الأمة وقدم بلاغاً للنيابة طالب فيه النائب العام بتطبيق المادة 178 من قانون العقوبات لحبس إحسان عبدالقدوس مدة لا تزيد على سنتين وغرامة لا تزيد على مائة جنيه.
وانتهت الزوبعة ويقول إحسان: «فوجئت بعد ذلك بأن «عبدالصمد» جاء لزيارتى فى مكتبى حين رأى أن الأمور لم تكن فى مصلحته وقال لى: الواقع إننى لم أقرأ القصة مطلقاً فقلت له: لماذا قلت هذا الكلام؟ قال: أنا سمعت الناس بتتكلم».
وفى كل الأحوال لم تسلم روزاليوسف من ملاحظات المسئولين من الرئيس إلى الوزير إلى المدير، وفى اجتماع الأمانة العامة للاتحاد الاشتراكى العربى - مالك الصحافة - بتاريخ 24 نوفمبر 1964وكان الحديث عن الصحافة وما ينشر فيها قال جمال عبدالناصر:«الشعور السائد بين الناس أن الجرائد مراقبة وهى فى الحقيقة لا تخضع للرقابة ويجب أن يفهم الناس ذلك، وكمثل من الأمثلة التى كانت تنشر فى الصحافة نجد أن مجلة روزاليوسف تنشر«يا بيروقراطية يا» وكذلك «اللحمة يابتوع اللحمة» وموضوع «الشفخانة»، وأنا لا أمانع فى أن ينشروا أن مستشفى قصر العينى مثلا به أخطاء ولكن لا يجوز أن يقال إن المستشفيات كلها بايظة!! إننى أعتبر هذه العملية عملية تخريبية!
وفى اجتماع آخر للجنة المركزية للاتحاد الاشتراكى العربى بتاريخ العاشر من أكتوبر سنة 1968 تطرق الحديث إلى الصحافة قال «جمال عبدالناصر»:
«لما بنمسك الجرايد.. مثلا بنمسك «روزاليوسف» كل جمعة بتكتب انتقاد على المديرين مثلا المدير راكب عربية، المدير قاعد على مكتب، والمدير كذا».
«طبعا المدير لازم يركب عربية والمدير لازم يقعد على مكتب ده فى كل الدنيا - سواء فى الشرق أو الغرب - لأن دى آخر حاجة بيصل إليها ولكن برضه بنحاول نثير نوع من الحقد الطبقى بإثارة هذا الوضع».
«كان يرأس تحرير روزاليوسف فى ذلك الوقت صيف عام 1964 الأستاذ الكبير «أحمد حمروش» - وكان من الضباط الأحرار - وتجىء شهادته فى حواره معى حيث قال:
«كان ذلك بعد نكسة يونيو 1967 وكان ينعقد فى الإسكندرية مؤتمر المبعوثين وكنت حاضراً هذا الاجتماع، ووقف البعض وقال إنه لا توجد حرية صحافة، فرد عبدالناصر قائلاً:
هذا غير صحيح ففى روزاليوسف تكتب مقالات ونقد شديد أنا غير موافق عليها وأعتبر أن فيها تزيداً، ومع هذا لا أتدخل فيما ينشر أو يكتب. وكان عبدالناصر صادقاً لما يقول!»
لكن الأمر لم يكن يخلو من بعض المضايقات أو السخافات وللدلالة على ذلك يروى الأستاذ حمروش هذه الواقعة: «اعتقل د. جمال العطيفى لمدة عشرة أيام وعندما أثار الزميل الكاتب «صلاح حافظ» هذا الموضوع فى اجتماع الاتحاد الاشتراكى فى قسم قصر النيل متسائلا عن أسباب اعتقال «العطيفى» كان نصيبه الاعتقال أيضا فى معتقل القلعة لمدة تسعة أيام».
وتستمر معارك روزاليوسف أمس واليوم وغداً!
محمد محمود
الملك فاروق