بيزنس الأدوية المغشوشة يدمر الثروة الحيوانية
ابتسام عبدالفتاح و هند خليفة
حالة من الفوضى باتت تسيطر على سوق الأدوية البيطرية فى الآونة الأخيرة حتى وإن خففت من حدتها قليلا الحملات الرقابية التى نفذتها أجهزة الدولة خلال السنوات القليلة الماضية، وتمثلت ملامح الفوضى فى الانتشار الواسع للأدوية المهربة من الخارج أو المغشوشة، حتى أصبحت سوق الدواء البيطرية ذات سمعة سيئة، فإذا كنت صاحب مزرعة لتربية الدواجن أو المواشى. وقطعا ستحتاج إلى الدواء ستجد نفسك أمام خيارات جميعها مر.
إما شراء نوع دواء مستورد جاء مهربًا بطريقة غير مشروعة وهو هنا ذو سعر مرتفع، أو أن تشترى دواء مغشوشا تم تصنيعه فى مصانع «بير السلم»، وحتى الأدوية التى تصنعها شركات معروفة فإنه يتم التلاعب فى نسبة مادتها الفعالة، ما يهدد الثروة الحيوانية إذا نظرنا إلى المشهد على المدى البعيد. «روزاليوسف»خاضت جولة فى بعض العيادات والصيدليات البيطرية وحتى محال بيع المنتجات الحيوانية، كما تواصلت مع بعض الجهات المعنية بالرقابة على سوق الدواء البيطرية المغشوشة ممن طالبوا بإعادة النظر فى البيئة التشريعية والإنتاجية الخاصة بهذه الصناعة، وندق ناقوس الخطر قبل انهيار الثروة الحيوانية.
انتشار لـ«دكاكين» البيع المجهولة
تنتشر فى المناطق السكنية «دكاكين» بيع المنتجات الخاصة بالحيوانات، ذهبنا إلى أحدها فى منطقة فيصل بالجيزة، لنجد أن الشخص الذى يدير المكان طفل لا يتخطى عمره الخامسة عشر عاما، فهوايته لتربية الحيوانات شجعته على فتح ذلك المحل التجاري. لم يقتصر على بيع الأطعمة الخاصة بالحيوانات لكننا اكتشفنا أنه يبيع أيضًا أدوية، حيث عرضنا عليه حالة قط مريض ونحتاج إلى إنقاذه، لنجده يقدم لنا دواء لتطهير المعدة ويشرح لنا طريقة تناوله، وبسؤاله عن مصدر ذلك الدواء قال إنه مستورد من الخارج وأنه لا يتعامل سوى فى الأدوية المستوردة ذات الفعالية الشديدة. بالانتقال إلى منطقة أخرى فى محافظة الجيزة، وجدنًا محلًا تجاريًا ولكن يدون على اللافتة الخاصة به أنه صيدلية لبيع الأدوية البيطرية، وبالوقوف أمام واجهته الزجاجية، وجدنا أصنافًا لا حصر لها من الأدوية البيطرية المستوردة، فبعضها فيتامينات، وبعضها الآخر لعلاج الكلى. دخلنا من الباب وجدنا شخصا يجلس مرتديا «بالطو» الأطباء الأبيض، وعرضنا عليه ذات الحالة للقط المريض لنجده يخرج لنا علبة لدواء آخر مستورد، وبينما كان يفحص القط أخذ يؤكد لنا: «غالبية الأدوية البيطرية تدخل إلى مصر مهربة.. فالأدوية المصرية ليس لها أى جدوى للعلاج». «تتم التفرقة بين الدواء المستورد والمضروب من خلال الختم الموجود على العبوة»، هكذا يوضح ذلك الشخص الذى عرف نفسه بأنه طبيب بيطرى مشددا على أن المحل الذى يعمل به حاصل على ترخيص عيادة ولكنه قرر الدخول فى تجارة الأدوية لأنها مربحة، مرجعًا سبب تهريب تلك الأدوية إلى ارتفاع أسعارها بعد رفع سعر الدولار، ولم يكتف ببيع الأدوية البيطرية للحيوانات فقط، لكنه أيضًا يقوم ببيع أدوية بشرية لعلاج الحيوانات.
عيادات «بير السلم» مصدر الأدوية المغشوشة
فى منطقة الهرم، نصحنا أحد الأشخاص بالتوجه إلى شركة كبرى ومعروفة لتجارة الأدوية البيطرية باسم «ب. الدواء»، توجهنا بالفعل لها وجدنًا شخصا يجلس لاستقبال الزبائن، طلبنا منه أن يعطينا بعض النصائح التى تمكننا من إنجاح مشروع لبيع الأدوية البيطرية. فى البداية قال: «كل الأدوية البيطرية مضروبة»، مشيرًا إلى أنها تصنع «تحت بير السلم»، وهو ما جعله يخصص الشركة التى يديرها للأدوية المستوردة فقط لأنها ذات فعالية، وحول الجهات التى تقوم بغش الأدوية وتصنيعها، يوضح أن العيادات البيطرية تقوم بعمل التركيبة وتبيعها تحت اسم أدوية مستوردة، لافتًا أنه يستعين فى شركته ببيطريين واستشارتهم فى الحالات المريضة والأدوية التى يحتاجونها.
بيزنس «خرافى» تتخطى أرباحه 200 %
يقول المهندس عاطف عبدالدايم، استشارى تربية الدواجن: الجهة المنوط بها تصنيع الأدوية البيطرية فى مصر هى الشركات، التى زاد عددها بشكل مبالغ خلال السنوات الأخيرة، نظرًا للأرباح الهائلة التى تعود عليها من خلال ذلك الـ«بيزنس الخرافي»، مشيرًا إلى أن الربح قد يتخطى 200 %، فى ظل عدم وجود غطاء قانونى منظم للمجال. عن شروط تأسيس تلك الشركات يوضح «عبدالدايم»، أن أى شخص من الممكن أن ينشئ شركة لتصنيع الأدوية البيطرية شرط أن يتوافر معه مبلغ مالى لاستيراد المادة الفعالة، وواحد أواثنان من الاستشاريين، الذين يتلاعبون فى تصنيع تلك المادة بحيث يكون الدواء ذا فعالية ضعيفة فيستخدم كمية منها أقل وبالتالى يضمن أن تكون التكلفة ضئيلة بالنسبة للمكاسب المرجو تحقيقها. حول التلاعب والغش فى تصنيع الأدوية، يوضح أن الأدوية المصرية نسبة المادة الفعالة بها فى الغالب غير مطابقة لما هو مدون على العبوة حيث توفر الشركات من استهلاك المادة الفعالة التى يتم شراؤها بالدولار، فلذلك يكون الدواء المستور هو الأكفأ، إضافة إلى أن بعض الشركات تقوم بتقليد شكل العبوات المستوردة وعلاماتها التجارية لتبيعها بسعر أقل. وتكمل بأن هناك نوعين من تراخيص الأدوية أحدهما يصدر عن وزارة الزراعة والآخر من وزارة الصحة، بينما هناك ثلاث جهات للرقابة هى وزارات «الصحة- الزراعة- التموين»، مرجعًا حالة العشوائية فى سوق الدواء البيطرية إلى تعدد الجهات.
تاجر: «أدوية بير السلم» خربت بيوت الناس
المتضرر الأكبر من العشوائية فى مجال الأدوية هم أصحاب المزارع والمربون لذلك رحنا نسأل عن معاناتهم .. «بحر غويط.. وشركات ملهاش عدد فبالتالى النصب كثير»، كلمات وصف بها أسامة المكاوي، مربى ماشية، سوق الدواء البيطرية فى مصر، منددًا بأن الشركات كل ما يشغلها هو تحصيل الأرباح على حساب أرزاقهم والثروة الحيوانية فى مصر، وأضاف: «لا يوجد رقيب على الجودة ولا الأسعار»، متذكرًا أنه فى إحدى المرات كان سعر كيلو الفيتامين ثلاثمائة جنيه وخلال شهر زاد ليصبح الضعف، لينخفض بعدها دون مبرر إلى مائة وخمسين جنيهًا.
غياب للرقابة.. وتلاعب بالأسعار
من جهته أكد تامر محمد، صاحب مزارع دواجن فى محافظة دمياط؛ أن الأدوية البيطرية التى تباع فى مراكز البيع لا يوجد لها تسعير معروف، مشيرا إلى أن المصانع تورد الأدوية البيطرية دون وضع الأسعار عليها، ما يعطى مراكز بيع الأدوية الحرية فى تحديد الأسعار، وهذا سبب تفاوت الأسعار، بجانب ضعف الرقابة على مراكز بيع الأدوية البيطرية، وفى النهاية المتضرر هو «المربي» ثم المستهلك الذي يتحمل كل التكلفة الإنتاجية.
الصيادلة: «مافيا» وزارة الزراعة وراء انتشار الأدوية البيطرية المغشوشة
عشرات الأسئلة كانت تدور بذهننا ونحن نسأل الدكتور وحيد عبدالصمد، عضو مجلس نقابة الصيادلة عن الفوضى التى تسيطر على سوق الدواء البيطرية، فإذا به هو الآخر يستنكر وضع الإشراف على الأدوية البيطرية، ويقول : الجهة المنوط بها ذلك هى شرطة البيئة والمسطحات المائية، مشيرًا إلى أن هناك جدلًا واسعًا فيما يخص هذا الشأن بقانون الصيادلة الذى يتم مناقشته تحت قبة البرلمان خلال هذه الفترة، والذى يقر بأن الصيدلى يكون مختصا بكل ما يتعلق بالإنسان والحيوان من دواء أو أجهزة أو كواشف، ما يعنى أن الدواء البيطرى لا يباع إلا فى صيدلية مرخصة . ويوضح «عبدالصمد»: الصيدليات البيطرية يتم ترخيصها كأماكن لبيع الأعلاف، ولكن يتم بيع الأدوية فيها دون إشراف من وزارة الصحة أو مفتشى الصيدلة، كاشفًا أن ذلك فتح الباب على مصراعيه أمام تجارة بيع الأدوية البيطرية المغشوشة، والتى أصبحت نسبتها فى السوق تتخطى التسعين فى المائة، ويفضلها باعة الأدوية البيطرية، لأنها أفضل من غالية الثمن. ويضيف عضو مجلس نقابة الصيادلة بأن هيئة الخدمات البيطرية هى أيضًا تتبع وزارة الزراعة، مستنكرًا عدم تبعية الطبيب البيطرى لها وليس لوزارة الصحة، موضحًا أن وزارة الزراعة هى التى تشرف وتسجل الأدوية، حتى لا تخضع مافيا الأدوية المغشوشة إلى وزارة الصحة لا فى المواصفات ولا فى التداول ولا التسعير، متهمها بأنها بابًا خلفيًا للفساد. واختتم بأن القانون يحمى تلك المافيا التى تتستر تحت اسم وزارة الزراعة، بصفتها الجهة المنوط بها التراخيص، مشددًا على أن عدم وضع القوانين المنظمة والصارمة هو من تسبب فى ظهور تلك المافيا وسيطرتها على السوق.
نقابة البيطريين: هناك انخفاض فى معدل الأدوية المغشوشة
من جانبه قال الدكتور يوسف العبد رئيس لجنة الدواء فى نقابة البيطريين أن العام 2019 شهد جهودا مكثفة من قبل هيئة الطب البيطرى وزارة الزراعة لمواجهة حالة الفوضى فى السوق، إذ قامت مديريات الطب البيطرى بالتعــــاون مع شرطة المسطحات المائيـــــة بشن حملة مكبرة فى 9 محافظات (الشرقية ،البحيرة ، كفر الشيخ ، الدقهلية الإسكندرية، الغربية، جنوب سيناء المنوفية، دميــــاط والإسماعيلية) للتفتيش علــــــى 262 مركزا لبيع وتداول الأدوية واللقاحات فــــى المحافظات وتم رصد 130 مركزا مخالفا ما بين العمل بدون ترخيص ووجود أدوية منتهية الصلاحية ووجود أدوية محظورة أو مجهولة المصدر. وأكد العبد على انخفاض معدل الأدوية المغشوشة ومنتهية الصلاحية بالسوق من ٤٠ ٪ خلال الثلاث سنوات الماضية إلى 25 ٪، متوقع انخفاض هذا المعدل فى حالة استمرار نفس الحملات الرقابية خلال العام الجاري2020. ويرجع «رئيس لجنة الدواء فى نقابة البيطريين» انتشار الأدوية البيطرية المغشوشة فى السوق إلى كون من يقوم بدور الرقابة على الأدوية هى لجنة الصيادلة بوزارة الصحة، وهم أطباء صيادلة وليسوا بيطريين، مطالبا بتفعيل دور الطبيب البيطرى فى الرقابة والتفتيش على الأدوية البيطرية لأنها تشهد تطورات متلاحقة وبالتالى تصعب على الصيدلى أن يفرق بين السليم منها والمغشوش، ناهيك أن إجراءات إدارة الصيدلة بالوزارة تستغرق أكثر من خمس سنوات لتسجيل المضادات الحيوية والأدوية. أكد العبد أن تعدد جهات التسجيل والجهات الرقابية يؤثر على مستقبل الصناعة ويكبد الشركات خسائر كثيرة، لهذا لا بد مناقشة قانون الهيئة العليا للدواء داخل مجلس النواب حيث سيتم الاعتماد عليه خلال الفترة الحالية فى توحيد هيئة التسجيل وتشديد الرقابة لمنع التلاعب، عدم بقاء صناعة الأدوية بدون أب شرعى بما يهدد الثروة الحيوانية بمصر. عن أنواع الأدوية البيطرية، أوضح « رئيس لجنة الدواء بنقابة الأطباء البيطرية» أنها تنقسم إلى «الأدوية البيطرية التابعة لوزارة الصحة، وإضافات الأعلاف والريمكسات والأمصال واللقاحات، لدينا أكثر من 400 مصنع لإضافات الأعلاف منها 20 مصنعا للأدوية البيطرية، بالإضافة لوجود 4 مصانع للقاحات والأمصال، يصل استثمارات هذا القطاع ما بين 30 و 35 مليار جنيه. أوضح أن نقابة الأطباء البيطرية طرحت مبادرة تهدف لتشجيع الصناعة الوطنية المحلية تحت شعار «ثروة حيوانية آمنة … لا للدواء المغشوش» لدعم الاقتصاد الوطني، ومطالبة الجهات الرسمية والرقابية بالتعاون للحد من الأدوية البيطرية المغشوشة، وتوعية الأطباء بخطورتها على الثروة الحيوانية، خصوصا أنها تؤدى لانتشار الأمراض الفيروسية التى تهدد إنتاج اللحوم والألبان واللحوم البيضاء.
التشخيص العشوائي يهدد الثروة الحيوانية
بينما يرجع الدكتور محمد سيف، مدير المعمل المرجعى للرقابة البيطرية بمعهد بحوث صحة الحيوان والمرشح لمنصب نقيب الأطباء البيطريين فى الدورة المقبلة؛ حالة الفوضى لعدد من الأسباب منها أن أغلب العاملين فى مراكز بيع الأدوية البيطرية ليسوا أطباء بيطريين، لكن أى شخص يحق له فتح صيدلية أو مكتب توزيع، بالطبع تكون فى الغالب غير مرخصة، موضحا أن قانون ممارسة مهنة الطب البيطرى يشترط أن يكون صاحب الترخيص طبيبا بيطريا لكن هذا لا يحدث كما أن إجراءات ضبط المراكز غير المرخصة تنتهى بدفع الغرامة، ولابد من تغليظ العقوبة على من يفتح مركزا لبيع الأدوية وهو ليس بيطريا. أضاف سيف : المربى شريك فى المشكلة أحيانا فهو يلجأ للأدوية الخطأ، كونه لا يعتمد على تشخيص طبيب بيطري، بل يعتمد على نفسه، بالتالى لا تعطى الأدوية النتائج الكاملة فيعتقد أن الدواء المغشوش، مستطردا: هذا لا يمنع أن هناك انتشارا لمصانع بير السلم التى تصنع الأدوية البيطرية مغشوشة، وتزوير عبوة الأدوية للشركات الكبرى للأدوية. عن عدم وجود أسعار على الأدوية البيطرية، قال « سيف» : إن عدم تسعير الأدوية البيطرية أزمة نعانى منها منذ زمن، وعن الرقابة يقول: إذ تعددت المسئولية ضاع الحق، مشيراً الى أن لجنة الرقابة تتكون من ممثلين عن هيئة الخدمات البيطرية فهى مسئولة عن ترخيص أماكن بيع الأدوية، بمساعدة مديريات الطب البيطرى التى تتكون من أطباء بيطريين، إضافة لجنة أطباء الصيادلة من وزارة الصحة للتفتيش على الأدوية، وإدارة مباحث التموين، موضحا أن اجتماع كل هؤلاء يستغرق وقتا طويلا، والأفضل أن تكون المسئولية كاملة على هيئة الخدمات البيطرية بوزارة الزراعة لأنهم جميعا أطباء بيطريون. >