لصوص لكن ظرفاء!

عن تاريخ مصر الملكية عبر سير ومغامرات المجرمين والحراميّة طبع لواء شرطة فى عهد الملك فاروق على نفقته الخاصة كتابا يضم سيرة خدمته وما تخلّلها من مغامرات وملاحقات وتسجيل دقيق ومفصّل لأكثر حيل المجرمين نُدرة وغرابة وطرافة. حتى إنه اسمى كتابه «مع المغامرين والمجرمين».
ينقل اللواء عبدالمنصف محمود باشا فى الطبعة الأولى من كتابه الصادر فى مايو من عام 1948، قصصا من الحياة البوليسية والحكومية كما يقول. ويكتب جُملة يبدو وقعها غريبا وصادما فى البداية: «أعمال البوليس والحراسة هى وأعمال المجرمين والمغامرين، وجها مرآة واحدة».
لكن نعرف بعد ذلك أن المؤلف الشرطى كان يقصد من كشف مغامرات جهاز الشرطة المصرية فى عهد الاحتلال البريطانى؛ تحقيق «عبرة للقارئين ويقظة للعاملين».
وكان من الطبيعى أن يكون الإنجليزيون، وحتى الضبّاط منهم، أحد هؤلاء المغامرين الأشرار، وأبطال أكثر حملات التهريب فى مصر مُخاطرة ومُكابرة.
والأكثر طرافة، وعلى طريقة لصوص لكن ظرفاء، أو إحالة لقصة ريّا وسكينة الذى جاور مسكنهما محل جرائم القتل التى ارتكبتاها قسم الشرطة، نتعرّف على حكاية المومس التى اتخذت من بيت يجاور جامعا فى أحد أحياء القاهرة، مكانا لاحتراف الدعارة!
ناسكات ولكن..
«جماعة من المغامرين، ابتدعوا فى الإجرام أمورا فيها تفكّه». هكذا يرى اللواء العسكرى فى جماعة الإجرام والمجرمين. نتعرّف على عبر سرده الأقرب إلى كتاب سيرى قصصى متتالى عن طرائف وغرائب عالم الجريمة والتهريب، حتى إنه من الممكن أن تجد أحد أفراد العصابة فى ثوب قسّ!
هذا ما حدث مع حكاية الراهبتين اللتين سافرتا على ظهر باخرة لاستقبال أقارب من بعثة إلى فرنسا، فأفسح لهما رجال الجمارك تقديرا للوقار والتديّن، بينما المرأتان تغطى جسديهما المخدّرات.
وهناك حكايات أخرى عن مرشدين مزيّفين، يتظاهرون بالتعاون مع الشرطة، فيما يكشفون لزملائهم عن خطة الإمساك بالتلبّس التى خطّطوها مع البوليس. ومن إخفاء أنابيب المورفين فى مناطق حساسة من أجساد المهرّبين، إلى تهريب المخدرات فى أحشاء حيوانات أليفة.
وقصة الجندى الذى أخفى الكوكايين عن عيون مفتّشى الجمرك فى كعب حذائه، والطبيب الذى يدسّ الهوروين فى حقيبة الكشف خاصته. كل هذا قبل وصول اختراع آلات الكشف بالأشعة إلى مصر.
فقد بلغ ثمن أجهزة الكشف فى المطارات والمصانع ألف جنيه مصرى، وهو مبلغ لم يكن يُستهان به وقتها.
المُهرّب الفيلسوف
يحكى لواء الشرطة عبدالمنصف محمود باشا هذا عن مهرّب من الأعراب «نغّص عليه وأقضّ مضجعه» بسبب طُرقه الشيطانية فى التهريب. وعندما حاول آخر الأمر تجنيده، خرج الرجل أياما ليفكّر ثم عاد ليقول للمحقّق إنه عار عليه فى هذا العمر (العقد السادس) أن يبيع نفسه للحكومة بمال، وإنه جاهز لتأدية واجبه نحو سلطة الحكومة لكن بلا مقابل وبعدما يكون قد تقاعد!
فهو إن لعب فى عملية التهريب دور المدبّر وأرشد عن أتباعه وأفراد أسرته يكون بذلك مهرّبا خمولا قنوعا غير مغامر، وإن اتفق جدلا على أن يقوم بالتهريب مرة واحدة فى العام، ولن تكون حينئذ الكمية المهرّبة من المخدرات أقل من 500 أُقة نظرا لهيبته ومكانته كأكبر المهرّبين فى قبيلته، فسيكون عائد العملية عن يوم واحد ثلاثة آلاف وخمسمائة جنيه، ومن الطبيعى إذن أن يكون هذا هو الخيار الأفضل بالنسبة إليه، عن لعب دور المرشد الذى سيتقاضى عنه ثمانية جنيهات شهريا!
ويختم اللواء هذه الحكاية الطريفة بقوله: «هؤلاء فلاسفة فى نظر أنفسهم، وعالة على المجتمع».
تاريخ سيناء عبر الجريمة
سلّام خضر من قبيلة الجهالة فى صحراء سيناء. امتهن التهريب منذ عام 1925، وتخصّص فى تهريب المخدرات فى المياه عبر قناة السويس ليلا.
ممّا يسرده لواء الشرطة المتقاعد، الذى تخرّج فى مدرسة البوليس برتبة ملازم ثان، من مغامرات سلّام نتعرّف على تراتبيّات العلاقات والروابط بين أهالى سيناء بعضهم ببعض، وبين أفراد عصابات التهريب بعضهم ببعض. ودور المرأة فى حماية ظهر زعيم العصابة، إن كان أخاها أو زوجها أو عشيقها.
الحشيش.. الونيس والعدوّ
لم يكن السلطان البندخيرى فى أواسط سنة 1382 يدرى وهو يشنّ أوّل حملة فى التاريخ على «الحشاشين» فى سوريا أن تهريب الحشيش أو «الماريجوانا» فى أمريكا سيصبح الينبوع الأبديّ الذى يغرِف منه عُتاة الإجرام حول العالم مؤونتهم من إدمان المغامرة المقرونة بالربح الموفور.
والحشيش هو الصديق الدائم فى جلسات «الغُرز». ومن الطريف وجود بائعى الحلوى كأحد أبرز لوازم جلسات الأنس والحشيش فى الغرز. حيث يقول ابن البيطار: «والحلاوات تقوّى فعله (أى الحشيش) والحموضات تفسده وتصحّى آكله».
أما من طرائف تجارة الأفيون فى مصر، ما يحكيه ضابط المباحث الجنائية فيما بعد، من ذكريات دوريّاته واستطلاعاته على الخيل، من انتشار الأفيون بماركات اعتاد التجّار على وضعها على بضاعتهم كى تكون مُسجّلة، ما يساهم فى ترويجها وحفظ مقامها فى «سوق الشرّ».
ففى مصر المَلَكية، انتشرت طُربات الأفيون من ماركات «أهرامات مصر»، و«الهلال يعانق الصليب»، و«هيئة الأمم»، و«وحدة النيل».
عيون مصرية على الجريمة الدولية
مصنع صغير فى كوريا مُرخّص له من قِبل الحكومة اليابانية، أَنتج فى سنة 1938، حوالى 1243 كيلو من الهيروين، وفى سنة 1939 أنتج 1327 كيلو، فى حين أن الاحتياجات الطبية فى العالم كله من الهيروين فى هذين العامين لم تزد على 1200 كيلو، ما يعنى أن إنتاج هذا المصنع الصغير زاد عن حاجة العالم بأجمعه من الهيروين للشئون الطبية.
راقبت أمريكا صناعة واقتصاد اليابان من الهيروين، وانتهزت الحكومة الأمريكية فرصة إشراف الجنرال ماك آرثر على نظام الحكم فى اليابان، فاتجهت إلى الحدّ من إنتاج المخدرات بها.
ومن أمريكا قصة جريمة أخرى بطلها اللص المشهور (روسكو يتس) Roscos Pitts، هذا الرجل تحايل على الشرطة بأن أخفى هويته بوسيلة عجيبة ومؤلمة، بأن جعل من نفسه شخصا ليست له بصمات!
اتفق روسكو مع أحد الجرّاحين فقطع له شرائح من جلد من منطقة الأضلاع على الجانبين ووضع اللص أصابع يديه فى مكان الشرائح لمدة ثلاثة أسابيع، ونجح فى تنكير بصماته.
لكن رجال المكتب الاتحادى للمباحث الجنائية (F. B. I) وصلوا إلى بصمة إصبع الرجل فى منطقة ما تحت المفصلة الأولى، وهى المنطقة التى عادة لا يتم التركيز عليها فى أخذ البصمات.
وتم القبض على اللص العتيد، الذى أرشد عن الجرّاح شريكه فحوكم بالسجن المؤبّد.
سنعرف من حكايات الجريمة العالمية فى كتاب اللواء بعد تقاعده عن خدمته، أن قسم تحقيق الشخصية (البصمات) فى الـFBI لا يحوى بصمات المجرمين أو المحكوم عليهم فقط، بل يتناول أيضا بصمات رجال الجيش والبحرية والطيران والموظفين والراغبين من الأهالى.
فى مرّة من المرّات اصطيد حوت بحرى فوُجد فى جوفه ذراع إنسان. وقد أمكن لإدارة تحقيق الشخصية بواسطة البصمات أن تقف على أن هذا الذراع لأحد رجال البحرية الأمريكية وأنه كان على إحدى السفن التى أُغرقت فى إحدى حوادث الحرب، وأمكن بهذا الكشف أن يُعلن عن موته بصورة قاطعة.
إيران والجريمة زمان
عمد اللواء عبدالمنصف محمود باشا فى كتابه عن المجرمين إلى ذكر الأسماء الأولى والثانية وأوصاف المجرمين الذين يستعرض مغامراته فى القبض عليهم وكشف ألاعيبهم. لكن فى هذه الحكاية التى تكتب سيرة تاجر إيرانى معروف فى القاهرة فى الأربعينيات، نفاجأ باحتفاظه بالحروف الأولى من اسم هذا التاجر وتجهيل هويّته.
(م. ع.) التاجر الإيرانى هذا، دأب بعد خسارة تجارته على الاتجار بالمخدرات كتعويض سريع لاسترداد ثروته، وكان يستغل جولاته فى بيع العطور والمساحيق فى أعمال توزيع المخدرات. قُبض على الإيرانى بمساعدة رجال القنصلية، واعترف على سائق التاكسى الذى كان يجلب منه البضاعة. الذى بدوره أرشد عن (أ. ص.) تاجر المخدرات الذى كان يستغل جولاته مع سائق التاكسى فى توزيع بضاعته، ومن ثم استغّل السائق نفسه لاحقا.
أسرار بوليسية
اللواء وهو يحكى مغامرته فى القبض على المتهمين وما جازف فيها بالمخاطرات ومخالفة القانون أحيانا، يسرد حكمة مهمة فى العمل البوليسى، أن «الطرق الشاذة فى ضبط المتهين، تخالف القانون الذى عهدناه ينصّ على العقوبات والمسئوليات ولم نجده ينصّ على مكافأة المُخاطِر أو تنشيط المُجتهِد».