الشماتة فى حرائق إسرائيل عجز عربى
آلاء شوقي و هالة أمين و آلاء البدرى
منعت إسرائيل رفع الأذان، فشبت فيها النيران.. فسبحان الله.
تلك عبارة ليست لواحد من عوام الناس، ممن تحركهم المشاعر غير المنظمة، وغير العقلانية، أو تسيطر على عقولهم الغيبيات، لشخصية إماراتية شهيرة، وقد كُتبت على موقع التواصل «تويتر» عقب اشتعال الحرائق فى الأراضى الفلسطينية المحتلة.
عبارة كاشفة لما فى الصدور، أو بالأحرى لما فى عقول الأمة التى تستسقى النصر من السماء، وهى تعيش اتكالًا، وتتعاطى حشيش البلادة، وتمضغ كلمات خطباء المنابر، مثلما «فص أفيون»: اللهم احرق زرعهم، واقطع نسلهم ويتم عيالهم.
لعل الخطورة لا تكمن فى العبارة بذاتها، بل فى شيوع الفكرة، ليس فقط فى الشارع بين البسطاء والأميين، بل فى أوساط الشباب المتعلم من رواد مواقع التواصل، الذين أخذوا بدورهم يربطون بين الحريق رغم كونه كارثة طبيعية، وبين منع رفع الأذان، متجاهلين مثلا أن السيول فى البحر الأحمر صنعت مأساة قبل أقل من شهرين.. فهل كانت غضبًا إلهيًا؟.. وإذا كانت كذلك، فهل الله حاربنا بالسيول من أجل إسرائيل؟.. وماذا عن حادثة الرافعة فى الحرم المكي؟
هناك آلاف الأسئلة بالطبع، لكن قومى لا يفقهون!
كما يفتح هذا التفسير الغيبى لكارثة، سؤالًا أكثر إلحاحًا، ومفاده «هل يغضب الله عز وجل من منع الأذان ولم يغضب منذ نحو سبعين عامًا من مذابح إسرائيل؟.. لو كان الأمر كذلك، كما يزعمون، فإنه علا شأنه، يكون قد غضب لذاته، لا لعباده.. وهو الذى يحرم قتل النفس ويجعله أكبر الكبائر».
تأتى تغريدة القارئ الكويتى مشارى العفاسى الذى يقول فيها: «إسرائيل تحترق وتفقد السيطرة وتطلب من الحلفاء المساعدة بعد منعها الأذان فى فلسطين المحتلة ومقدساتنا المغتصبة.. ويشفى الله صدور قوم مؤمنين».
إن خير أمة أخرجت للناس تغرق فى الأساطير.. هذا أمر مؤسف لكنه حقيقي، والمؤلم حقًا أن يتخيل المتخيلون أن الله خلق الحياة الدنيا، من دون قوانين تنتظم لتنظيمها، وعلى رأسها قوانين السببية، فالمقدمات تفضى إلى النتائج، فإن كان حقًا أنه «وما النصر إلا من عند الله»، فإنه لم ينصر أمة خاملة بليدة كسولة، فالأصل «وقل اعملوا فسيرى الله عملكم».
أيما يكون.. الأمة لا تعلم، ولا تقرأ.. ومازال فينا من يؤمن بالتداوى ببول الإبل، وأيضا طرد الحسد بـ«الخمسة وخميسة»، و«الخرزة الزرقا» و«جلب الحبيب»، وتسخير الجن والعفاريت.. إلى آخر تلك المظاهر الفادحة من مظاهر الاضمحلال الفكرى والحضاري.
وبعيدًا عن تلك النقطة، يبقى تمعن المشهد من زاوية رد فعل الحكومة الإسرائيلية، وتعاملها مع الكارثة لافتًا للانتباه على مستويين، الأول إجرائي، فقد شرعت فى إجلاء السكان من المناطق المنكوبة، بمنتهى الكفاءة رغم ارتفاع الحرائق إلى أكثر من 200 حتى فجر الجمعة الماضي، ومن دلائل هذه الكفاءة أن عدد القتلى يبلغ «صفرًا».
كما أن تل أبيب لم تستشعر حرجًا فى أن تستغيث بالحلفاء والخصوم معًا، من أجل مساعدتها فى محاصرة النيران، ولم نجد مسئولاً إسرائيليا أو كاتبًا يرفض ذلك من منطلق نوازع شوفينية خزعبلاتية.. والغريب فى هذا الصدد أن الخليفة العثمانلى حامى بيضة الدين وصلاح الدين عصره وأوانه كان أول المبادرين إلى إغاثة «صديقه نتنياهو»، فأرسل طائرة إطفاء حرائق.. إن المحن تكشف معادن الرجال!
وإزاء عدم وجود ضحايا.. ترى هل يمكن أن نقارن بما تخلفه حوادث أهون فى بلادنا، بلاد المؤمنين الذين يرضى الله عنهم من مآس ودموع؟
إذا كان ما حدث هو غضب الله على «أحفاد القردة والخنازير»، فماذا يكون حجم غضبه على بلاد تغرق فى «زخات المطر»؟
هل يعلم المتشدقون بتلك الترهات أن حوادث الطرق فى مصر خلفت العام الماضى أكثر من 25 ألف قتيل وجريح؟
سيخرج ذو لحية وعمامة فوق جمجمة مهولة صارخًا: «حكمة ربنا يا أخي.. المؤمن مبتلي»، فالتفسيرات على طريقة «كده ينفع وكده ينفع»!
أما المستوى الثانى للتعامل الإسرائيلي، فيكمن فى كيفية استغلال الحدث سياسيًا، وهكذا هى الذهنية الإسرائيلية، وتلك شخصية المرابى الذى عبّر عنها وليام شكسبير فى «تاجر البندقية»، ولعل أبرز ملامحها ما نراه ونعيشه ونكابده منذ الحرب العالمية الثانية حتى الآن إثر استغلال محرقة النازية، من أجل الاستيلاء على الأراضى الفلسطينية، أرض الميعاد المزعوم، على حطام أشجار الزيتون، ودماء الأطفال.
الاستغلال السياسى تمثل فى توجيه أصابع الاتهام على الفور إلى الفلسطينيين، وشن حملة اعتقالات مسعورة ضدهم، حتى قبل الانتهاء من التحقيقات.. فالفلسطينى مجرم وقاتل ومشعل حرائق دائمًا!
وفى إطار الشيطنة، قال حزبا «الليكود» و«بيت يهودي» المتطرفان إن الحرائق المشتعلة فى جميع أنحاء إسرائيل هى من صنع الإرهاب، وقال كل من وزير التعليم نفتالى بينيت ووزير الثقافة والرياضة ميرى ريجيف: «الأحمق فقط يمكن أن يصدق أن الأمر جراء ظواهر طبيعية»، فيما اقترح وزير الاستخبارات يسرائيل كاتس إصدار تشريعات تسمح لحكومة الاحتلال الاستيلاء فورًا على منازل وممتلكات أى شخص يدان بالحريق.
أما بنيامين نتنياهو رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلى فقد سارع إلى القول إن هناك أدلة على أن الحرائق متعمدة، لكنه لم يقدم أدلة ولم يعط مزيدًا من التفاصيل.
وعلى الدرب ذاته سار الدكتور ديفيد بوكاي، أستاذ دراسات الشرق الأوسط فى جامعة حيفا، الذى زعم أن «العرب فعلوها»، ودعا إلى القبض على النائب العربى فى الكنيست الدكتور أحمد الطيبي، بذريعة أنه حرض ضمنيًا على الجريمة بعد كلماته الحماسية اعتراضًا على مشروع قانون منع الأذان.. إنها الديمقراطية التى تنحاز دائمًا لشعب الله المختار.
ومع اندفاع الاتهامات، جرى التشويش مع سبق الإصرار فيما يبدو على تقارير أخري، تتحدث عن ارتفاع درجة الحرارة والجفاف وأثرهما فى اشتعال الحريق، وأيضًا عن «سيجارة ألقيت على مستودع بنزين» فاندلعت إثرها ألسنة اللهيب.. فهذا تفسير لن يفيد «الكيان».
لقد حدثت الكارثة، والمنطقى أن يتعامل معها الاحتلال بطريقة «كوهين ينعى ولده ويصلح ساعات»!
ورغم كيل الاتهامات، والاعتقالات، وصب اللعنات على «الإرهاب العربي»، أو بالأحرى «الإسلامي»، لم تجد السلطة الوطنية الفلسطينية بأسًا فى مد يد المساعدة للاحتلال.. وقررت الحكومة إرسال فريق إغاثة للمساعدة تعبيرًا عن التضامن فى الضراء.. وقال نائل العزة الناطق باسم الدفاع المدنى: «وافقنا على تقديم المساعدة من خلال إرسال طواقم إطفاء تتمثل فى أفراد ومعدات ووسائل لوجستية وطعام.. سنبذل كل الممكن لإخماد النيران».
ما شاء الله على الكرم والشهامة والنخوة العربية، وليت أبناء أمة الضاد يهبون هكذا لنجدة بعضهم بعضًا، فى المحن، بدلاً من انشغالهم بالتآمر على بعضهم بعضًا.. لمصلحة أعدائهم.