«المصرى أفندى».. والثورة الساخرة

محمد مصطفي موسي
لم تكن ملامحه بأنفه الضخم، وجبهته الناتئة، وشفتيه الممطوطتين، وطربوشه القصير، ومسبحته الكهرمانية أو شمسيته، تحملان شبهة الأرستقراطية، كان مقصودًا أن يكون «شعبويًا» فى المظهر، كما هو فى الجوهر، المصرى أفندى الشخصية الكاريكاتيرية التى ولدت على صفحات «روزاليوسف» قبل 84 عامًا، وتحديدًا فى 7 مارس 1932.
ولادة تلك الشخصية الكاريكاتيرية التى شغلت الرأى العام المصرى، واهتم بها مفكرون غربيون منهم المستشرق الفرنسى «جاك بيرك»، الذى وصف «المصرى أفندى» بصورة تختزل روح العبث والسخرية لدى المصريين، كانت نتاج ورشة عمل بين فاطمة اليوسف ومحمد التابعى وصاروخان.. فقد استرعت انتباههم الشخصيات الساخرة فى الصحافة الغربية، فقرروا تمصيرها رسمًا وفكرًا ولسانًا وضميرًا، ولعلهم إذ كانوا يقدمون «مولودهم» إلى القراء، لم يتخيلوا أن يصبح المصرى أفندى الذى تحول إلى «المواطن المصرى» بعد ثورة 23 يوليو، شوكة فى حلق الحكومات التى كانت ترتجف من سخريته منهم، إلى الحد الذى دفع إسماعيل صدقى أخطر رؤساء وزراء مصر إلى أن يعاتب التابعى من أن صاروخان يرسمه قبيحًا: «مصوركم الكاريكاتورى يرسمنى قبيحًا، رغم أن وجهى أجمل من النحاس باشا».
تلك الحكاية ينقلها برشاقة فى كتابه الرشيق: «روزاليوسف.. والمصرى أفندى، وصف مصر بالكاريكاتير»، الزميل رشاد كامل، الذى يروى عن مؤسسة المجلة فاطمة اليوسف، قولها: «إن المصرى أفندى رمز خالد عن الرجل المصرى العادى، المخلص طيب القلب».
كما ينقل عن الدكتور إبراهيم عبده، مقولته بأن المصرى أفندى رمز لكل فكرة مصرية، وعلى لسانه خرجت النكتة، وعن الكاتب الصجفى ضياء الدين بيبرس أنه رسم أودع فيه صاروخان خلاصة انطباعاته عن المصريين.. «قصير القامة، مبتسم فى أغلب الأحيان، يرتدى الثياب الإفرنجية من دون تأنق، ويمسك بيده مسبحة تشف عن تدينه».
الصورة التى جسدتها الريشة، لم تجافِ جوهر الشخصية، ذات الطبيعة الساخرة، التى تقابل المفسدة السياسية بفعل ثورى هادئ ومتصل، أساسه السخرية الحكيمة، تلك التى تستولد الضحكة من أضلع الكآبة، وتهدم الهيبة المعنوية للقامعين الباطشين، فتجعلهم هزوًا أمام الرعية، ما يفتح آفاق الفعل نحو التغيير، على أرض الواقع.
هكذا دخل المصرى أفندى رقمًا صعبًا فى المعادلة السياسية المصرية على مدى عقود، يمارس النقد على نار هادئة وحامية، نفسه طويل، كأنه يحفر جدارًا بإبرة، يصنع الخدش تلو الخدش، حتى يهدم الباطل، وعندئذٍ لا يتشفى فيه، سالكًا مسلك النبلاء، أو بالأحرى الفلاحين المتسامحين، ممن تطبعوا بوداعة أمواج النهر، وقلما يخرجون عن النظام المتوازن للحياة، لكنهم إذا ثاروا ففيضان هادر، لا يبقى ولا يذر.
وهكذا مضى المصرى أفندى يجلد الباطل، فيرغى ويزبد، ويتوعد المجلة بالويل والثبور وعظائم الأمور، أو يسعى إليها بالرشاوى فترفض «الجزرة»، وتتحمل فى سبيل دفاعها عن مبادئها العصا، وإذا اشتد ألمها، واستبد بها الوجع، عضت على حريتها بأسنانها.
على هذا لم يكن مفاجئًا أن يطعن أكذوبة الاستقلال المصرى سنة 1932 عن التاج البريطانى، بقوله إنه عيد استقلال بريطانيا بمصر.. إن فضح الأكذوبة هو الخطوة الأولى نحو تأسيس الوعى بالواقع، ومع الوعى يُطرح السؤال: كيف نغير؟.. «هنعمل إيه»، ومع السؤال تزدحم مصر بالأفكار، هذا يهتف، وذاك يستحث الهمم، وهؤلاء يروجون لوجهة نظر ما، ومن ثم ينبثق الوعى من قلب الأفكار المتضاربة، فى حركة فوارة نشأت من نكتة ألقاها «المصرى أفندى» الرسم الذى يعبر عن حراك الشارع، بمنتهى الأمانة.
وتتحرك قافلة المصرى أفندى، فى مقدمتها ألوية الثورة الساخرة، التى تركز على حرية الصحافة، التى صورتها ريشة صاروخان، فى ذاك الوقت المبكر فتاة حسناء تأكل لحمها سكاكين القامعين الباطشين، أو عبرت عن معنى ومفهوم دولة القانون، لا فيما يمرره برلمانها من تشريعات، وإنما فى العدالة التى تحمل ميزانها وتهدد بالرحيل، بعد أن تحرض المصرى أفندى باتخاذ موقف إزاء القوانين الاستثنائية، فإما أن يختارها هى أو ينحاز للاستثناء بذريعة أن للمرحلة متطلبات، فإذا بالاستثنائى يصبح ديموميًا.
وبطبيعة الحال لم يخلص «المصرى أفندى» من محاولات إسكاته، من قبل «جماعة العهد البائد» الذين كانوا يرتعدون رعبًا من صدور «روزاليوسف» يوميًا، فكيف لا؟.. أليس الرسم ينتقد الإنفاق من أموال الشعب على مشروعات وهمية، تجبره على «خلع هدومه»، فى حين أن حكومته تستوضح منه معالم الطريق، وكلاهما لا يعرف أين بوابة الخروج.. لكن المصرى أفندى أكثر حرصًا على الوطن من حكامه، فإذا به يحذرهم من أن الحرب العالمية الثانية، أصبحت على عتبات مصر، لكن الحكومة تغط فى سباتها، بل إنها تطالب المواطن بأن يأخذ بدوره «تعسيلة».
إنها تعسيلة فى ظلمات الجهل والفشل، وتصريحات إنكار الواقع، التى يتمرد عليها المصرى أفندى مطالبًا الحكومة بسرعة الإصلاح عبر التعاطى مع ملفات التعليم الصناعى والتجارى، واضعًا أسس تجربة أشبه بالماليزية على يد مهاتير محمد، فتغضب تلك الحكومات، وتبحث لصداعه المزمن عن مسكن، لكن هيهات.
«المصرى أفندى» مع صاروخان، وغيره من المبدعين الذين تناوبوا على رسمه، وعلى رأسهم «رخا» لا يكف عن افتعال الضجيج، مادام مظلومًا، حتى لو وضعته الأيادى الباطشة، فى مفرمة الفساد، لينزل فتاتًا على طبق المصالح الشخصية.