الثلاثاء 22 أكتوبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

عندما طلب تعبئة النيل في أزايز

عندما طلب تعبئة النيل في أزايز
عندما طلب تعبئة النيل في أزايز


البابا المعلم كان يتمتع بخفة الظل، لديه قدرة عجيبة على التقاط «القفشات» المضحكة، وهناك مواقف فى حياة ذهبى الفم تثير العجب والضحك، كان تلقائياً بسيطاً غير متكلف أو يحيط نفسه بهالة مصطنعة كما يفعل من فى مقامه.
كان مثلث الرحمات البابا كيرلس السادس أبو المعجزات  قديساً يتمتع بشفافية روحية كبيرة وكان يستشرف مستقبل الراهب أنطونيوس السريانى «البابا شنودة الثالث» ففى يوم 30/9/1962 م أرسل البابا كيرلس السادس يستدعى الراهب أنطونيوس فذهب إليه خالى الذهن لا يعرف السبب فقد حاول البابا كيرلس السادس رسامة الراهب أنطونيوس أسقفاً فكان يقول له: «أنا غير مستحق لهذه الخدمة» ولما تكرر هذا الأمر تشاور البابا مع أسقف دير السريان فقال له «دع لى هذا الأمر»،

 وعندما ذهب إلى الدير ركب أسقف دير السريان سيارة جيب قاصداً الراهب المتوحد أنطونيوس الذى يسكن فى قلاية «سكن الراهب» بعيداً عن ديره وقال له: «البابا كيرلس يريدك فى مشكلة قانونية (قوانين الكنيسة) ولا يوجد غيرك تحلها» فقال له تواضعاً: «أنا لا أعرف إلا قليلاً فى هذه القوانين»، فقال له: «البابا قال ما فيش غيرك يحلها» فقال الراهب أنطونيوس: «طيب هاروح للبابا بالشبشب والجلابية دى» فقال له: «سندبر لك ملابس» فأخذوا حذاء أحد الرهبان وجلابية من ملابس الرهبان وعمة ولبسها الراهب أنطونيوس وذهب إلى البابا كيرلس وكان من عادة الراهب أنطونيوس أن يضرب مطانية للبابا «انحناءة احترام للبابا»، وحينما فعل وضرب مطانية وهم الراهب أنطونيوس بالوقوف أخرج البابا الصليب من جيبه وقال رسمناك يا أنطونيوس باسم شنودة أسقف التعليم فسقط الراهب أنطونيوس يقبل يده وقال: أنا ما أستحقش يا سيدنا، فقال له البابا سنكمل الرسامة غداً وكانت هذه مفاجأة بسيامته أسقفاً للتعليم للكلية الإكليريكية والمعاهد الدينية باسم الأنبا شنودة.
وجاء إلى البابا شنودة الثالث فى أحد الأيام أحد التجار المسيحيين من الأردن ليعرض عليه مشروعاً تجارياً وخيل لهذا التاجر أن البابا راهب لا باع له فى مواجهة ألاعيب التجار، وبعد أن استقبله البابا وأحسن استقباله أخبره التاجر أن لديه مشروعا عظيما سيعود على الأقباط والكنيسة بالبركة، وعندما استفسر البابا عن تفاصيل المشروع أفاده التاجر بأنه يعيش فى الأردن ونهر الأردن قد تبارك بنزول السيد المسيح فيه ومياه هذا النهر بركة كبيرة يجب أن يتبارك بها المصريون، واقترح على البابا أن يقوم التاجر بتعبئة مياه نهر الأردن فى زجاجات وتصديرها إلى مصر لتكون سبب بركة للمصريين، وهنا أدرك البابا أن الرجل يفترض فيه السذاجة ويريد تحقيق بعض المكاسب التجارية، فأبدى البابا إعجابه بالفكرة وناقش الرجل فى تفاصيلها وثمن جهوده المخلصة حتى شعر التاجر بأنه قاب قوسين أو أدنى من تحقيق صفقة عمره، وهنا بادره البابا باقتراح أفضل وهو أنه إذا كان نهر الأردن قد تبارك بنزول السيد المسيح مرة واحدة فإن نهر النيل أكثر بركة لأن السيد المسيح قد شرب منه يومياً لمدة ثلاث سنوات أثناء رحلة العائلة المقدسة إلى مصر وعرض البابا على التاجر أن يقوم بتعبئة مياه النيل فى زجاجات وتصديرها إلى ملايين المسيحيين حول العالم، وعندما سأله المحيطون به: ما الذى حدث مع هذا التاجر وجعلك تضحك هكذا؟ فرد عليهم البابا: «ده عايز يعبى الميه فى قزايز ويبعها لنا».
الأنبا تادرس أسقف بورسعيد هو شيخ من كبار شيوخ المجمع المقدس للكنيسة القبطية الأرثوذكسية، وكان يشغل منصب سكرتير عام مساعد المجمع فى عهد البابا شنودة، كما أن نيافته كان منسق رحلات البابا فى الخارج والنائب البابوى بأمريكا التقينا نيافته ليفتح لنا خزائن أسراره وذكرياته مع البابا شنودة الثالث وفى البداية يقول: معرفتى بالبابا شنودة الثالث تمتد إلى أكثر من خمسين عاما، فلقد بدأت تلك العلاقة سنة 1952 عندما كنت طالبا فى كلية الهندسة بجامعة عين شمس بالعباسية وكنت أذهب لحضور اجتماع الشباب بكنيسة السيدة العذراء مريم بالأنبا رويس، وكان من ضمن المتكلمين فى الاجتماع الأنبا شنودة أسقف التعليم وكنا كشباب جامعى نلتف حوله وكانت له مغناطيسية خاصة، وكنا نشعر أننا نصعد إلى السماء من خلال كلماته الذهبية.
وشاءت الأقدار أن أهاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية عقب نكسة 1967 وكنت حريصاً جداً على اقتناء ما استطعت جمعه من عظات الأنبا شنودة تلك العظات التى تتلمذت من خلالها  والتى ولدت بداخلى شوقاً كبيراً لحياة الرهبنة، كانت تلك الرغبة تزداد يوماً بعد يوم، وبعد أن كانت أمريكا هى الحلم الذى هاجرت من أجله أصبح  الحلم لا يعنى لى أى شىء، بل على العكس كان قيداً يكبل انطلاقى نحو الرهبنة.
وفى عام 1974 اتخذت قرارى بالعودة إلى مصر لأحقق رغبتى فى الذهاب إلى الدير ونصحنى أب اعترافى أن أقابل قداسة البابا شنودة الثالث وأعرض على قداسته رغبتى وهو سوف يحدد لى الدير الذى أترهبن فيه، وبالفعل ذهبت لمقابلة البابا وحدد لى ميعاداً للذهاب إلى الدير، وفى اليوم المحدد ذهبت إلى الكاتدرائية، وكنت أظن أن البابا سوف يعطينى خطابا إلى رئيس الدير ليقبلنى، ولكنى فوجئت به يصطحبنى فى سيارته ويجلسنى بجانبه رغم أننى شاب صغير وساعدنى البابا ببساطته على أن أتباسط معه حتى وصلنا إلى دير الأنبا بيشوى بوادى النطرون وتخيلت أن البابا سوف يعهد بى لرئيس الدير لوضعى كتلميذ رهبنه تحت الاختبار، وهو النظام المتبع فى كل الأديرة لكل شاب متقدم إلى الرهبنة، ولكنى فوجئت بالبابا يستدعى رئيس الدير ويطلب منه أن يصاحبنا فى جولة داخل الدير لاختيار قلاية «سكن الراهب» مناسبة لإقامتى فيها وتعجبت من أن البابا رغم كثرة مشاغله يهتم بأمر إعاشة راهب تحت الاختبار بنفسه وذهبنا فى جولة لاختيار القلاية المناسبة إلا أن البابا لم يوافق على أى منها.
وبعد جولة طويلة من البحث قال لى البابا: «مافيش مكان لك فى الدير» حزنت كثيراً وظننت أن قول البابا لى بمثابة رفض لقبولى فى الدير، ولكن لم يدم الحزن طويلاً فلقد فوجئت بالبابا يخرج مفتاحاً من جيبه ويعطيه لى قائلاً: «ده مفتاح قلايتى الخاصة بدير السريان» واصطحبنى البابا إلى دير السريان المجاور بنفسه واطمأن على تدبير كل احتياجاتى فى الدير وسكنت فى قلاية البابا الخاصة.
قضيت فترة الاختبار فى الدير وكان البابا يتردد على الدير أسبوعياً وكنت أجدها فرصة طيبة لاقتناص كلمات المنفعة من فمه التى تفيدنى فى حياتى الرهبانية، كما كنت أعرض عليه بعض الأمور الخاصة فى الدير وكان المقر البابوى بالدير بسيطا جدا، وكثيرا ما كان يجلس البابا على الأرض ولا يشعر أحد أن هناك شيئاً خاصاً يميزه وفى إحدى زياراته للدير استدعانى فى وجود الأنبا صرابامون أسقف الدير وقال لى: «هنموتك بكره» استفسرت من رئيس الدير فضحك وقال إن هذا يعنى إن غداً ستتم رهبنتك فالراهب تصلى عليه صلاة الموت إشارة إلى موته عن العالم.
أكثر من مرة دعانى قداسة البابا إلى الأسقفية، ولكنى كنت أتهرب من تلك المسئولية الضخمة التى لا طاقة لى بها، ولكن ذات مرة وجدته مصراً على إقامتى أسقفاً لمدينة بورسعيد عقب نياحة الأنبا متاؤس مطران المدينة وتفويض شعب بورسعيد لقداسته لاختيار أسقف جديد للمدينة.
عهد إلىّ البابا شنودة بعد ذلك بمهمة تنسيق رحلاته فى المهجر، وكنا نرى منه العجب فى تلك الرحلات فهو يعمل بشكل دءوب ويحرص على مقابلة الجميع وتلبية كل طلباتهم، وكنت أحدد مواعيد المقابلات وكان آخر ميعاد أحدده فى العاشرة مساء، ولكنى كنت أفاجأ بأنه حدد موعدا حتى الثانية صباحاً، كان الوفد المرافق له ينهار من التعب، أما هو فيعمل دون انقطاع.
وقبل اندلاع ثورة 25 يناير شعر البابا بمدى الضغط المعيشى الواقع على الفقراء، وفى حوار له على إحدى الفضائيات حذر من ثورة الجياع وقال إن الأجواء تبشر بحدوث ثورة مثل الثورة الفرنسية وطالب بأن توجه بعض الأموال لصالح الفقراء.∎