الثلاثاء 12 نوفمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

"ولاية مصر العثمانية" لعنة تركيا علي المصالح العربية والفلسطينية


  عبدالله كمال 12 يونيو 2010 3:00 م
 
في صباح يوم السبت الماضي، نشرت هنا مقالي (علي حساب مصر)، وفي صباح يوم الأحد نشرت جريدة (الشروق) للكاتب فهمي هويدي مقالا عنوانه (ليس خصما علي مصر).. ما يعني أنه لم يحتمل الصبر، وقد رد علي مقالي بعد دقائق من قراءته.. إذ عليه أن يسلم مقاله للنشر في عدد اليوم التالي علي الأقل قبل الواحدة ظهرا.

وعلي الرغم من هذا العنوان الصارخ في وضوحه، والمضمون المماثل في صراحته، إلا أن هذا الكاتب المخضرم لم يمتلك القدرة علي المواجهة العلنية، وآثر أن يجهل ويتجاهل من يرد عليه.. وقال في مطلع مقاله واصفا إياي : (كتابات تستخدم منابر محسوبة علي بعض الأنظمة، ومنها ما هو ناطق باسم أجنحة نافذة في تلك الأنظمة).. ولمن لم يفهم تلميحات هويدي المرتعشة فإنه يقصد الإشارة إلي انتمائي لعضوية أمانة السياسات في الحزب الوطني.. ورئاستي لتحرير مجلة وجريدة قومية هي (روزاليوسف).

وليس في ذلك ما يخجلني، بل إن صفاتي السياسية معلنة، ويشرفني أنني محسوب علي هذا البلد، فهو أولا وأخيرا وقبل كل شيء وطني، أدافع عنه ولو افترضت ضعفه.. أزود عنه ولو كان منهارا.. وتلك حالة تناقض من يهاجم بلده.. ويساند سياسات كل الدول الأخري.. مادامت اختلفت مع بلده.. مرة مواليا بالقلم لإيران.. ومرة مواليا بالرأي لتركيا.. وفي كل الأحوال هادما لفكرة الوطن برمتها.. كما هو الحال في سياق ما يدون فهمي هويدي يوميا.. أقولها بكل وضوح وصراحة دون مواربة.

لا أريد استحضار هذا الكاتب المعروف بانتمائه الأيديولوجي إلي (معركة جدل)، المسألة التي أتناولها هنا أعمق.. وأكبر من انحيازاته مع مصالح الآخرين ونماذجهم.. وبالعودة إلي مقالي قبل أسبوعين (حزب الله في البحر الأحمر)، ثم مقالي (علي حساب مصر).. وبينهما مقالي في الجريدة اليومية الأحد الماضي (دفاعا عن الشرف التركي)، فإن المعضلة التي أبحثها وأفكر فيها علنا مع القارئ وصانع القرار تتجاوز مبارزة من هذا النوع المحدود.. حتي لو كان مثيرا صحفيا.. إلي مناقشة أبعاد التحديات التي تواجه مصر.. في منطقة تتغير بالفعل.. بل ذهب بعض المحللين خارج البلد إلي القول بأننا أمام (ميلاد نظام إقليمي جديد).. خصوصا مع بدء سريان قرار العقوبات الصادر عن مجلس الأمن ضد إيران يوم الأربعاء الماضي.. وهو ما يفتح (مرحلة مختلفة) في تاريخ صراع القوي الإقليمية والدولية في المنطقة.

لقد كتب فهمي هويدي ما يلي: (لا أحد يستطيع أن يدعي أنه لولا الصعود التركي لما كان التراجع المصري، وغاية ما يمكن أن يقال إن الصعود التركي كشف حجم ومدي القصور في الدور المصري، لكن هذا لا يجب أن يحسب علي الأتراك).

عمليا وللأسف، هويدي يدافع عن الصعود التركي بقدر ما يهاجم الدور المصري، تماما كما ظل يفعل - لأسباب مختلفة - طيلة ربع قرن بشأن ما كان يعتبره الصعود الإيراني.. أيضا في مواجهة ما كان يعتقده التراجع المصري.. وبافتراض أن (مصر قد انتهت) وحان زمان الأتراك كما قد كان قد حان زمان الفرس.. فلست أدري ما الذي يشغل هؤلاء.. وما الذي يدفعهم دفعا إلي انتقاد الدور المصري.. إذا كان قد تراجع بالفعل وانزوي.. أليس وجوده المؤثر وتبديل الصاعدين عليه طيلة العقود الثلاثة الماضية دليلا أكيدا من بين ما يكتبون علي أنه فعال ويتم البحث له عن منافس.. أيا ما كانت مواصفاته وقوميته؟

شرق أوسط .. جديد

إن ما يجب أن يشغلنا هنا، ليس الدفاع عن دور مصري بنيوي لا يمكن تجاوزه لأسباب جغرافية وتاريخية وسياسية واقتصادية، حتي لو افترضنا جدلا، أن منفذيه قد قصروا، وإنما أن نعيد قراءة مجموعة من الأمور والظواهر.. وتقييم المتغيرات.. ومنها ما يلي:

ملامح التغيير في الشرق الأوسط وتأثيره علي مصالح مصر.

المتطلبات الوطنية ومتطلبات الرأي العام.

مستقبل الصعود التركي (الدعائي).

مستقبل الملف الإيراني وتأثيره علي الأمن القومي المصري.

تأثير كل تلك المتغيرات علي القضية الفلسطينية.. ومن ثم علي المصالح المصرية.. وعلي توزيع القوي في المنطقة.

لقد خرج علينا الكاتب الأمريكي المعروف (جورج فريدمان) في الأسبوع الماضي بمقال مطول عنوانه (الأساطيل الصغيرة ومعارك الرأي العام) يمكن أن نستخلص منه (مفهوما محددا) مؤداه أن هناك فرقا بين المتطلبات الوطنية ومتطلبات الرأي العام.. ويقول فريدمان: (عندما تحتل المسألة أهمية هامشية تميل الحكومات إلي العمل بمقتضي رغبات شعوبها أيا ما كان منشأ هذه الرغبات، فلا توجد مكاسب تذكر في مقاومة الرأي العام في حين أنها تكسب بمسايرته) .

بالقياس علي هذا، وبتحليل السياسة التركية.. والمقارنة بالسياسة المصرية.. فإن تصرفات إسطنبول، لا أقول أنقرة، فلكل مدينة مدلولها التاريخي والثقافي والسياسي، ووجهة نظري أن السياسة التركية تدار الآن انطلاقا من إسطنبول لا أنقرة.. هذه التصرفات التي ألهبت الرأي العام العربي - من الرباط إلي الكويت - إنما تلبي مشاعر الجماهير.. في وقت ليست فيه إسطنبول مقيدة بمقومات وطنية والتزامات تفرض عليها واجبات محددة ومواقف لها تعقيداتها التاريخية.. في حين أنه علي مصر أن تحسب كل خطوة.. لأن أي تصرف له تأثير حيوي علي مصالحها وعلي مصير ملفات عمرها علي الأقل ستون عاما.. ويكون الخطأ فيها من جانب القاهرة - فرضا - مساويا لكارثة تستمر نتائجها عقودا. بمعني آخر، إن تركيا فيما يخص الملف الفلسطيني، الذي كان محورا لموضوع النقاش طيلة الأيام الاثني عشر الماضية.. خصوصا غزة.. ليس لديها ما تخسره.. كما أنه ليس لديها ما تقدمه علي وجه اليقين الملموس.. فلو أنجزت كسبت.. ولو لم تحقق شيئا.. وتحولت إلي هدف آخر فإنها لن تخسر أي شيء .

الورقة الحرة

ملف (حصار غزة)، ومن ثم (الملف الفلسطيني) برمته.. بالنسبة إلي تركيا (ورقة حرة).. (جوكر) ليس بين أوراق اللعب.. إذا ما ضاع علي مائدة القمار فإنه لن يؤدي إلي فقدان (الجلد والسقط).. في حين أن (الملف الفلسطيني) بالنسبة لمصر ليس ورقة من الأصل.. بل قيد.. وتعقيد.. العبث فيه قد يكون خطرا علي مستقبل الدولة المصرية برمتها. مثلا، يمكن أن تلهو تركيا بمسألة (حصار غزة) وأبعادها الإنسانية، فإن هي دفعت بعدد من أطنان المساعدات التي لن ينتبه الكثيرون إلي أنها لا تكفي مؤونة القطاع لمدة نصف يوم.. فسوف يسجل هذا في رصيدها العاطفي.. وإن لم تنجح فسوف يحسب لها شرف المحاولة.. في حين أن قضية الحصار لها أبعاد أكثر تعقيدا بمقياس مصر.. لاتقف عند حدود البعد الإنساني، علي أهميته.

إن (غزة) وفق المعيار القانوني الذي تتمسك به مصر وتصر عليه ولن تتنازل عنه (أرض فلسطينية محتلة)، ليست هي الأرض الفلسطينية كلها.. ولايعني انسحاب القوات الإسرائيلية منها أنها لم تعد محتلة.. وعلي المحتل مجموعة من الالتزامات التي لابد أن يقوم بها بموجب القانون الدولي.. ومن بينها إعالة أهالي الأراضي التي احتلها.

لكن المخطط الإسرائيلي، المعلن والمنشور عنه في مختلف الصحف، والذي لا يمكن تجاهله، والذي يرسخه الانقسام الفلسطيني.. وتجزئة الأراضي الفلسطينية ما بين الضفة والقطاع.. يسعي إلي أن تتصاعد أوضاع الحصار وتعميق الانقسام بحيث يتم إلقاء (غزة) علي عبء مصر.. ومن ثم يكون علي الأردن أن يحتوي القطاع.. وبالتالي لا تكون هناك (دولة فلسطينية).. ويذوب الملف.. وتفوز إسرائيل بما ابتلعت من الأراضي العربية.. ويكون علي كل من مصر والأردن هضم المكون الفلسطيني المتشرذم في وعاء كل من الدولتين.

وضع مثل هذا، لن يؤدي إلي تغيير في شكل الدولة المصرية العتيد فحسب، بل إنه سوف يخلق مشكلة ديموجرافية مهولة، ويضع في قلب مصر (أقلية فلسطينية) من مليون ونصف مليون فلسطيني، بمن في ذلك المنتمين منهم لحركة حماس وغيرها من التنظيمات الفلسطينية، ويفجر سيناء، ويؤثر علي علاقات اجتماعية معقدة بين بدو مصر وفلسطينيي غزة، وينشئ (حماس ستان) في قلب البلد، وأهم من تبعاته علي الأمن القومي المصري.. أنه ينطوي علي إهدار تاريخي ولا أخلاقي ومتواطئ مع إسرائيل للحقوق الفلسطينية التاريخية.. وليذهب كل نضال العقود الستة الماضية إلي الجحيم وعلي الشعب الفلسطيني السلام.

وفي المقابل فإن دخول الضفة علي الأردن يعني نهاية الأردن نفسه، في ضوء المكون الفلسطيني واسع النطاق في التركيبة السكانية الأردنية.. فإذا ما وضعت في الاعتبار أن الولايات المتحدة سوف تنسحب من العراق.. والنفوذ الإيراني في العراق.. فإن هذا يعني دولة فارس سوف تمتد جغرافيا ونفوذا من الخليج إلي حدود مصر.. ولهذا أيضا تأثيراته المعقدة علي أوضاع السعودية والخليج والشام .

وبالتالي فإن مصر تتعامل مع ملف الحصار، وتلتصق به (مسألة المعبر عند رفح)، وموضوع المصالحة الفلسطينية، وغير ذلك من مكونات الملف الفلسطيني برمته.. تتعامل بمنتهي الحرص.. وتتحرك وفق مقتضيات معقدة جدا.. تضطر الإدارة المصرية إلي أن تتصرف بشكل قد يوحي أحيانا بأنها ضد ما يريده الرأي العام.

المطرقة والسندان

هنا يعود مفهوم (فريدمان) للظهور.. المتطلبات الوطنية ومتطلبات الرأي العام.. ومصر بين هذين كما لو أنها بين المطرقة والسندان.. إنما تدير الموقف بحيث تحرص علي المصالح المصرية البعيدة.. أولا.. في ضوء موازين القوي.. ولا يمكن الرضوخ في ذلك لمن يرفعون الأعلام التركية علي أبواب المساجد في أيام الجمعة.. أيا ما كانت العواطف الجياشة التي تحركهم - بقصد أو دونه.

ما أحب علي الحكومات أن تساير الرغبات العاطفية للرأي العام، وهل هناك حكومة لا تريد أن ترتفع شعبيتها بين جمهورها وناخبيها ومواطنيها، ولكن القسم الدستوري الذي ينص علي حماية المصالح الوطنية، هو نفسه الذي سوف يدفع الرأي العام إلي أن يلعن أي حكومة تهدر تلك المصالح.. خصوصا لو تم ارتكاب أخطاء تاريخية.. استراتيجية.. تؤدي إلي كوارث لا عودة منها.

وقد يصدم البعض حين أقول إن الدولة المصرية بإدارتها الحالية تستحق (الإشادة العظيمة) في تعاملها مع الملف الفلسطيني.. علي الرغم من جموده المقيت (الملف لا التعامل).. والمماطلات التي تطيح به من مرحلة إلي أخري.. ذلك أنها تواجه ومنذ حرب العراق 1991 ضغوطا غير مسبوقة ومتصاعدة من (ماكينات الحشد الشعبوي) التي تلهب الرأي العام.. من قبل أطراف ليست عليها استحقاقات حقيقية أو ملموسة بشأن القضية الفلسطينية.

بمعني أصرح، لن تتعرض قطر إلي أي خسائر لو تخلت عن عمليات الشحن في اتجاه مسألة غزة، ولن تنهار إيران إذا تركت الملف الفلسطيني لأهله بعيدا عن المناورة الإقليمية به، ولن تفقد تركيا أيا من مقوماتها الاستراتيجية لو عادت إلي ما كانت عليه قبل بداية 2009 في تعاملها مع هذا الملف، وحتي سوريا التي تستخدم الملف في التفاوض الإقليمي علي الجولان المحتل.. هي محتلة بالفعل.. فما الذي يضير الشاة بعد ذبحها.. إلا أن تعود أرضها المحتلة.

بعد إيران «الغشيمة»

إن الكثيرين الآن يدركون أنني رغم تعاطفي الشديد مع الشهداء الأتراك في قافلة أسطول الحرية، وإدانتي الأكيدة للسلوك الإسرائيلي الإجرامي ضد المدنيين علي سطح السفينة التركية (مرمرة)، إلا أنني لست من المتعاطفين مع المواقف التركية.. أو من المولهين بـ(البزوغ الإقليمي) للعثمانيين الجدد.. كما لم أكن من المخدوعين بالمزايدات الإيرانية علي القضية العربية خلال الفترة الماضية.

وحتي لو كانت إيران من (الغشم) بحيث إنها راحت تحاول الاستيلاء علي دفة الأمور في الملف العربي بالتحريض وادعاء افتقاد الأنظمة العربية لشرعيتها وتفجير الحروب بالوكالة.. وحتي لو كانت تركيا من الذكاء بحيث إنها تسعي إلي تحقيق أهداف مثيلة بقبضة ناعمة وأساليب هادئة.. فإن يقيني الجازم أن كليهما دخيلان.. يريدان السطو علي تلك الدفة.. ولكل أسبابه.. ولكل مبرراته ولكل مصالحه.

ومن المؤسف، في ظل توسع أساليب (المكايدة)، والمزايدة، علي مستوي الإقليم، أن أدت هذه الأوضاع إلي استشعار المراقبين تنافسا ملموسا بين كل من طهران وإسطنبول - لا أقول أنقرة - في أعقاب الأصداء التي أحاطت عاطفيا بالعثمانيين الجدد عقب أحداث قافلة الحرية المؤسفة.. التي لم تسفر بشكل ملموس إلا عن إهانة مدوية للشرف التركي . وهكذا رأينا في الأسبوع الماضي أصواتا من إيران تعلن عن إرسال قوافل بحرية فارسية للرد علي القوافل العثمانية.. كما لو أن تلك القوافل هي التي سوف تعيد الحقوق المهدرة أو سوف تنهي حصارا ممتدا منذ ما لا يقل عن 3 سنوات.

إن الخطورة الإضافية، والتي تترسخ بالتراكم، هي أن تلك التفاعلات المستغلة لمشاعر الرأي العام، إنما تختصر القضية الفلسطينية في (مسألة غزة) - وهذا مني أحلام إسرائيل - وتدفع بالقضية إلي أن تفرغ من وعائها العربي.. وتحويلها إلي ملف إسلامي.. تنشغل به عواصم خارج المنطقة ليست عليها أية استحقاقات ومتحللة من كل التبعات.. وبما يستجلب علي صانع القرار العربي المعني بالأمر قدرا هائلا من ضغوط الرأي العام الإسلامي.. وفي ذلك أشير إلي أنه قد نظمت مظاهرات ضد مصر في إندونيسيا.. لأن قطاعا من المسلمين هناك قد اعتقدوا أن مصر تساهم - كما تقول الدعاية المتطرفة - في حصار غزة مع إسرائيل ولا تقوم بما عليها من واجبات يحتمها الدين.

ولاشك أن للقضية الفلسطينية أبعادا دينية، غير أنها ليست قضية دينية، وهي قبل أن تكون قضية عقيدة.. هي صراع يخص الأرض والشعب الذي يضم إلي جانب المسلمين الفلسطينيين مسيحيين فلسطينيين.. لكن الإسهامات الصوتية التي تضاف إلي الملف من جانب الشيعة الفارسية.. والعثمانية السنية.. إنما يؤدي إلي تحويله لموضوع (إسلامي) لا عربي.

الخطورة هنا هي أنه يتحول من قضية جغرافية إلي مسألة أيديولوجية، تحلله من حسابات معقدة علي مستوي الإقليم تتعلق بالالتصاق الجغرافي.. وموازين القوي.. والتركيبات السكانية.. ومعايير الأمن.. وهذا في التحليل الأخير لا يخدم أحدا سوي إسرائيل وأهدافها. إن اختصار فلسطين في أنها غزة المحاصرة، وتلخيص الشعب الفلسطيني في أنه حماس المقاومة، ونفي كل العوامل والمقومات الأخري، وتجسيد القطاع علي أنه الأرض الملهمة لماليزي قادم من كوالالمبور لكي يشارك في قافلة الحرية، أو إيراني قادم من طهران لكي يعبر بحقيبة أطعمة إلي جائع في رفح الفلسطينية، أو تركي قادم من أزمير لكي يموت علي سفينة في عرض البحر، يتيه الحقائق ويماهي ما بين التفاصيل التي تريد بالفعل أن تتجاوزها إسرائيل. كسر الحصار في حد ذاته هو هدف إنساني مثالي لابد من السعي وراءه، لكنه ليس هو الحل للقضية الفلسطينية، ومن ثم فإن تحويل الأهداف التركية الناتجة عن إهانة الشرف في عرض البحر علي أيدي الكوماندوز الإسرائيليين، إلي أن يكون (تحطيم الحصار) هو في واقع الأمر خديعة تركية لإلهاء الرأي العام العثماني عن الكارثة التي ألمت بتركيا بعد الصفعة التي نالتها إسطنبول إسرائيليا.. ولا يحقق في ذات الوقت المصالح الكاملة للقضية الفلسطينية.

خطوات للوراء

لقد تراجعت المطالب التركية بعيد أزمة القافلة والشهداء الأتراك التسعة، عن المطالبة باعتذار إسرائيل، إلي حد المطالبة فقط بموافقة إسرائيل علي تحقيق دولي في الجريمة التي ارتكبتها في عرض البحر.. وبينما راحت تركيا تتسول الإدانات من مختلف المحافل الدولية الرسمية وغير الحكومية.. فإنها حولت الأهداف إلي موضوع رفع الحصار.. وصولا حتي إلي الحديث عن سفر رجب طيب أردوغان إلي غزة. [نفي ذلك وزير الخارجية أوغلو] ومن بعد ذلك راحت إسرائيل تقايض الضغوط الدولية الهادفة إلي تخفيف - لا رفع - الحصار.. بالقبول الدولي أو الأمريكي بأن يكون التحقيق في الجريمة إسرائيليا محليا.

إن أي مراقب لا يمكن أن يغفل أبدا أن الرئيس أوباما بدلا من أن يقضي وقتا في نقاش الرئيس عباس حين زار واشنطن الأسبوع الماضي حول جدول زمني للتفاوض مع إسرائيل وأجندة هذا التفاوض، راح يناقشه وفق صفقة (الأمن مقابل الغذاء لغزة)، ومن ثم لم أندهش حين كانت تصريحات عباس التالية هي: أن حلم الدولة الفلسطينية يتلاشي.

المسألة ليست في الطعام، فحسب، كما تريدها تركيا، وحتي لو كان الجوع نوعا من المقاومة، وحتي لو كان الصمود في مواجهة الحصار أهم تأثيرا من إطلاق صواريخ حماس التمثيلية علي إسرائيل، وحتي لو كانت الزيارات إلي غزة.. سوف تمثل تحديا شكلانيا لإسرائيل.. يمثل تعضيدا معنويا للمحاصرين في غزة.. فإن كل هذا لن يعني نهاية الحصار.. وهذا المنحي التركي يمثل في عمق مضمونه لعنة علي القضية الفلسطينية ولايحقق أهداف الشعب الحقيقية سواء في الضفة أو في القطاع أو في القدس أو في المخيمات خارج الأراضي الفلسطينية أو داخلها.

هذه اللعنة لها أبعاد أيديولوجية، لاتضر فحسب بالقضية الفلسطينية، ولكنها أيضا تسيء إلي المصالح القومية المصرية، لأن التحركات التركية - عن قصد أو بدونه - إنما تجسد - وكما قلت من قبل - مشروعا ثقافيا ودينيا يهدف إلي إحياء - ولو افتراضي وبدون طريق الاحتلال - لمشروع الخلافة العثمانية.. ما يعضد التيارات المؤيدة لهذه الأفكار.. تلك التي تؤمن بأنه ليس مرفوضا أن يحكم مصر ماليزي أو باكستاني.. ومن المقبول تحويل مصر إلي ولاية مفردة ضمن خلافة أعرض.. تمتد بطول العالم الإسلامي.. وفي هذه الحالة فإن المطروح أن تكون تلك الخلافة عثمانية.. وعاصمتها إسطنبول.. والسلطان عليها هو رجب طيب أردوغان أو أحمد داود أوغلو وفق ما سوف تسير إليه أمور تبديل السلاطين في (الآستانة).

لقد كتب مواطن قطري علي شاشة قناة الجزيرة قبل أيام (لو لم أكن قطريا لوددت أن أكون تركيا).. وكتب آخر من دولة عربية لا أذكرها أنه كان يتمني لو استمرت الخلافة العثمانية عقودا أخري.. وارتفعت الأعلام التركية وصور طيب أردوغان في مختلف البلدان العربية.. وهو ما لفت نظر الكثيرين.

غير أن تلك كلها مظاهر طارئة، لا تعني كما يتمني فهمي هويدي، ومن يماثلونه من أصحاب نفس الرأي الأيديولوجي، أن الطريق مفروش بالورود في مسار المشروع العثماني الذي يقوده حزب العدالة والتنمية.. حتي لو كانت التفاعلات تأخذ منحي خطيرا فيما بين تل أبيب وأنقرة وبطريقة قد تقوض التحالف الاستراتيجي الموقع بين الدولتين منذ 1996 .

مواصفات موقف تركيا

في الأسبوع الماضي، وحين كتبت رصدا تحليليا مطولا وأظنه متعمقا للتحديات الاستراتيجية التي تواجه مصر من كل من: إيران وتركيا وأثيوبيا وإسرائيل - لا أستثني منهم أحدا - كان أن اهتمت التعليقات بأن تسجل أن تركيا تملك ناتجا قوميا يصل إلي 600 مليار دولار.. وقد انشغل رجب طيب أردوغان في المنتدي العربي التركي المنعقد في يوم الخميس في تركيا بأن يذكر الحاضرين بأن اقتصاد تركيا هو السابع أوروبيا والسابع عشر عالميا.. وهذا كلام حقيقي.. وقد يعني الكثير في حالة المقارنة بين مصر وتركيا.. لكن علينا أن نلاحظ الآتي فيما يخص صعود القوة التركية.. اقتصاديا وسياسيا.. وفي ضوء تفاعلات أزمة قافلة أسطول الحرية:

انبني النمو الاقتصادي التركي علي نجاح حقيقي في إدارة موارد الدولة وتنميتها، ولكن هذا النجاح مرتبط بالأساس بقدر هائل من العلاقات المتشابكة مع السوق الأوروبية التي تطمح تركيا في أن تنضم إلي عضوية الاتحاد الذي يشكلها.. وهي تجد صعوبات حقيقية في ذلك.

ما أقصده أن تركيا مدينة في نموها للغرب.. تماما كما تدين إسرائيل في رخائها للولايات المتحدة.

- لم تخض تركيا حروبا إقليمية ممتدة وطويلة مثل غيرها من الدول العربية، وحتي لو كانت تواجه قلاقل الأكراد في أراضيها فإنها لم تفقد مثل مصر مائة ألف شهيد في حزمة حروب.

- استفادت تركيا حقا ويقينا من علاقاتها السياسية والاستراتيجية مع حلف الأطلنطي، ومقابل قيامها بمهام محددة ممتدة علي مدي خمسين سنة لصالح الحلف وبما في ذلك ضد دول إسلامية.. ما عضد تراكمها الاقتصادي الذي لم يولد مع حكم حزب العدالة والتنمية وإن عضدته حكومة الحزب بالتأكيد.

- تسعي تركيا من خلال هذا الصخب الدعائي في المنطقة العربية إلي توسيع آفاق الأسواق التي تستهدفها اقتصاديا.. وعقد الصفقات المتنوعة تجاريا.. واجتذاب الاستثمارات.. وقد كان لافتا للغاية أنها في إبان الأزمة الأخيرة أعلنت في نهاية الأسبوع الماضي عن نشوء المنطقة الحرة بينها وبين سوريا والأردن ولبنان والعراق.

- تواجه تركيا تحديا سياسيا خطيرا في علاقتها مع الولايات المتحدة.. ليس فقط بسبب تناثر مؤشرات أمريكية عن عدم الرضاء علي التصرفات التركية ومراميها البعيدة.. ولكن أيضا بسبب المعوقات التي تضعها جماعات الضغط الأرمينية واليونانية واليهودية ضد المصالح التركية في الولايات المتحدة.. وهي من أهم المؤثرات في القرار الأمريكي خصوصا في الكونجرس.

- لا تتبني تركيا توجها محددا بخصوص التوسع السياسي في الإقليم العربي.. ولا تعلن أجندة واضحة.. ولا تملك سياسة ذات عناصر متكاملة بخصوص الملف الفلسطيني.. وهي تتعامل معه بالقطعة.. ولأهداف دعائية أكثر من كونها لديها استراتيجية يمكن تحليل مراميها . ومن ثم فإن السّكْرة سوف تذهب وتأتي الفكرة.. وبعد زمن وجيز سوف يتساءل الرأي العام: ما الذي حققه الشموخ العثماني الذي أهين في عرض البحر.. خاصة أن أصحابه ليسوا مستعدين لصدام حقيقي مع إسرائيل حتي حين تعلق الأمر بشهداء أتراك.

- تبني تركيا سياستها في المنطقة علي ما تسميه وما يسميه مناصروها (المعادلة الصفرية) التي تقوم علي الوصول بالعداء والخصومة مع أي طرف إلي مستوي الصفر.. وقد فقدت تلك السياسة أهم أركانها خلال الأسبوعين الماضيين بوصول العداء مع إسرائيل - علي الأقل شفويا - إلي ما يتخطي الصفر بكثير.. إلا إذا كان كل هذا الذي يجري مجرد تمثيلية وهو ليس كذلك.

- تواجه تركيا كما تواجه كافة دول الإقليم الاحتمالات المتصاعدة لتطورات الملف الإيراني.. خصوصا بعد فرض قرار العقوبات من مجلس الأمن علي إيران.. ولاسيما أن تركيا متورطة في المسألة من جانب أنها طرف في الاتفاق الثلاثي (البرازيل - تركيا - إيران) بخصوص تخصيب اليورانيوم الإيراني في تركيا.. وبعد أن صوتت تركيا بالفعل ضد قرار العقوبات (يذكر في هذا السياق أن الولايات المتحدة قد سارعت إلي تمرير القرار قبل أن يحل دور رئاسة مجلس الأمن علي تركيا بالتناوب وهذا أمر له دلالة مهمة جدا في العلاقات بين واشنطن وأنقرة).

- ترتبط الأوضاع التركية الحالية باستمرار حزب العدالة والتنمية في الحكم.. وهذه مسألة تخضع للتحليل في عواصم مختلفة بعد التطورات الأخيرة.

وقد يكون أحد أهداف تركيا، إذا ما افترضنا بعد النظر العثماني، أن تسعي إلي ملء فراغ سوف تتركه إيران.. بعد أن تتطور الأمور بشأنها.. في العامين المقبلين.. والمؤكد الآن في ضوء قرار العقوبات الذي صدر يوم الأربعاء أن إيران سوف تترك موقعها.. ولكن هذا لا يعني أن الفراغات ستكون سدي لمن يحاول أن يرثها.. فمن الأصل كان التوسع الإيراني غير شرعي.. وكانت محاولات فرض الهيمنة الفارسية لا تقوم علي حق.. وإنما تستند إلي الاستيلاب والتوظيف لأوراق ليست من مقومات المجتمع الإيراني.

كما لو أن التاريخ في هذه المنطقة سيبقي أسيرا للطامعين من خارجها.. وكما لو أن مصيرها وأمنها سوف يظل مقيدا برغبات الطامحين غير العرب.. وكما لو أنها خالية من الدول ومن الشعوب.. وكما لو أنه علينا أن نقبل أية عملية تسويق لأي ساعٍ لدور ولا أقول صاحب دور.
 
عبد الله كمال

يمكنكم مناقشة الكاتب وطرح الآراء المتنوعة على موقعه الشخصى

www.abkamal.net

www.rosaonline.net

أو على المدونة على العنوان التالى: http//alsiasy.blospot.com

Email:[email protected]