
طارق الشناوي
عبدالوهاب ممنوع اللمس!!
الأربعاء الماضى أتم الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب 112 عاماً، مرت الذكرى فى هدوء رغم أنه فى حياته لم يكن يطيق أبداً الهدوء وكان يعتبره هو والموت سواء ولهذا ظل دائماً وحتى اللحظة الأخيرة من عمره داخل بؤرة الإعلام الصاخبة.. عبدالوهاب واحد من ثلاثة أصوات شكلت مذاق الأغنية المصرية.. الاثنان الآخران هما أم كلثوم وعبدالحليم، ولعبدالوهاب ميزة أخرى لا تتوافر لكل من أم كلثوم وعبدالحليم أنه ملحن مجدد واستثنائى وصاحب لقب موسيقار الأجيال فهو ملحن الملحنين، وعلى مدى أكثر من 60 عاماً ظل هو «الألفة» بين كل الملحنين باعترافهم ومبايعتهم له.
ما هو سر الفتور الذى يقابل به الإعلام المصرى والعربى ذكرى عبدالوهاب؟! بينما لو أنك تذكرت ما الذى تعده «الميديا» سنوياً للاحتفال بعيد ميلاد أو رحيل عبدالحليم أو أم كلثوم لاكتشفت أن عبدالوهاب يبدو وكأنه يتيم بلا نصير ولا حزب ولا مريدين.. رغم أن الوهابيين - أقصد بالطبع عشاق عبدالوهاب - هؤلاء الوهابيون على العهد بل إنهم لا يزالون يتناحرون حباً وعشقاً وهياماً وبعضهم من عشاق عبدالوهاب القديم ويعتبرون أن الطقاطيق والأدوار التى كان يرددها متمسكاً بالمذاق القديم فى العشرينيات والثلاثينيات هى قمة الإبداع مثل «يا ترى يا نسمة» التى ردد فيها كلمة يا ترى أكثر من 40 مرة بقدر لا ينكر من الرتابة التى يراها أتباع المذهب الغنائى الوهابى القديم هى الإبداع كما ينبغى أن يكون وهناك أيضاً عشاق عبد الوهاب الحديث الذين لا يعترفون سوى بالألحان المودرن العصرية غنى بعضها بصوته وبتوزيع أندريا رايدر مثل «أنا والعذاب وهواك».. اشتعل هذا الصراع بين «الوهابيين » فى حياة عبدالوهاب ولا يزال مشتعلاً بعد رحيله.. ولكن لماذا خفت التواجد الإعلامى لمحمد عبدالوهاب الذى كان يعتبره فى حياته هو نبض الحياة ولم يكن يسمح بأن يبتعد عنه الوهج الإعلامى ولو لحظات حتى أنه عندما مرت موجة بين المطربين والمطربات لإعادة أغنياته القديمة واعتقد بعض مريديه أن هذا يغضبه قال إنه سعيد بأن يعيد المطربون والمطربات تقديم بعض أغنياته القديمة لأنهم لو أجادوا غناءها أفضل منه سوف يتذكر المستمعون الأغنية القديمة وربما أعادوا سماعها بصوته كنوع من المقارنة أو حتى الوفاء، وإذا أخفق المطربون فى غنائها فإن المستمعين سوف يترحمون على صوته ويزدادون تعلقاً به.. وبعد أن أصبح عبد الوهاب غير قادر على الغناء فى الحفلات انسحب منذ منتصف الخمسينيات واكتفى بتسجيل أغنياته فى الاستديو وطرحها على أسطوانات ثم أشرطة، وبعد أن وهن صوته لجأ إلى حيلة «من غير ليه» التى سجلها بصوته على العود وهو يجرى بروفات مع عبد الحليم على الأغنية فى مطلع عام 1977 وقدمها عام 1989 وكأنه يغنيها فى نفس العام بعد أن استعان بتكنولوجيا مزج الأصوات.. وقدم التليفزيون المصرى وقتها تمثيلية دعائية قادها مفيد فوزى من خلال برنامجه «حديث المدينة» فى عز قوة التليفزيون الأرضى وانفراده بالمشاهدين، وكأن عبد الوهاب يقدم الأغنية بصوته كل ذلك من أجل أن يظل عبدالوهاب حاضراً ليس فقط فى التاريخ ولكن فى اللحظة الراهنة، حيث إنه قبل رحيله ببضعة أسابيع فى 5 مايو 1991 كان قد لحن لنجاة قصيدة «أسألك الرحيلا» وعبد الوهاب وقتها كان قد أكمل التسعين من عمره فهو من مواليد 13 مارس .1901
نعم يوجد لعبدالوهاب عشاق ومريدون وجمعية تحمل اسمه ولكن كان بين عبدالوهاب ورجل الشارع إحساس بأنه فنان أرستقراطى غير قابل للمس رغم أنه نشأ فى حى شعبى- سيدى الشعرانى - وكان فى حياته ابن نكتة ساخراً وساخناً ولكن كانت هناك مسافة ما تبعده عن رجل الشارع.. وهذا ليس له علاقة بثراء عبدالوهاب لأن يوسف وهبى سليل الباشاوات والذى كان يحمل البكاوية أطلق عليه الناس لقب فنان الشعب بينما عبدالوهاب ظل فى الوجدان الشعبى فناناً عظيماً مبدعاً لكنه ليس ابن البلد.. الناس دائماً ترسم صورة ذهنية للفنان وتتناقلها عبر الأجيال ولا تُصدق غيرها.
عبدالوهاب فنان عظيم تحبه لكنك لا تأخذه بالأحضان لأنه فنان تغلفه أوراق السوليفان.. غير قابل للمس.. ولهذا مر عيد ميلاه بهدوء، لكن ألحانه ستظل لها كل الحضور والوهج والحياة!!