الخميس 19 يونيو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
الموسيقى ليست مجرد سلعة للاستهلاك

الموسيقى ليست مجرد سلعة للاستهلاك


شهدت القاهرة، فى بداية نوفمبر، انعقاد مهرجان الموسيقى العربية. إن التفكير فى أن تكون موسيقانا العربية، محورًا أو موضوعًا، للمناقشة الجادة، والتحليل العلمى الدقيق، اعتراف صريح، بأن الموسيقى، واحدة من قضايا المجتمع القومية، والحيوية، والتى تستحق عمـق التناول، مثلها فى ذلك، قضية الديمقراطية، أو الإصلاح الاقتصادى،أو مكافحة الإرهاب.
ولا يمكن أن نغفل دور هذا المهرجان، فى تعميق، وإثراء التواصل الفنى، والإنسانى، بين الموسيقيين العرب. ليس هناك ما يمكن أن يوحِّد الناس، ويشعرهم بالألفة وبالطاقات الإنسانية المشتركة، مثل الفن. فما بالنا إذا كان هؤلاء الناس ينتمون إلى لغة واحدة، وتاريخ واحد، ولهم طموحات، تؤكد رغم المشكلات والأزمات، مصيرهم الواحد المشترك.
لكننا فى مجال موسيقانا العربية، نطمح إلى المزيد فى دور الموسيقى، فى خلق، وتشكيل الشخصية العربية. نحن نطمح إلى واقع، يحتكم فى كل ممارساته إلى «أخلاقيات الموسيقى»، التى تتضمن حب الهدوء، وحسن الاستماع، وتقدير التأمل، واحترام تعدُّدية الأصوات. إن الإنسان الذى يذهب إلى حفلة للموسيقى العربية، ويقضى ساعتين، مع الأنغام، والألحان (هذا مع افتراض تمتعه بآداب الاستماع إلى الموسيقى)، ثم يعود إلى حياته، سالكًا من التصرفات ما هو مناقض للقيم الجمالية، الموسيقية، من خدش مشاعر الآخرين، أو استباحة خصوصياتهم، أو إزعاجهم بالضوضاء، أو التعصب لرأى، أو لديانة، أو طبقة، أو عِرق، أو لون . مثل هذا الإنسان، مجزأ المشاعر، متناقض، يتعامل مع الموسيقى، على أنها «وسيلة» لقضاء الوقت فقط.
إن الانفصال بين الاستماع إلى الموسيقى، من ناحية، و«السلوك الموسيقى»، من ناحية أخرى، يمكن التعبير عنه بسيادة النمط الاستهلاكى، تجاه الفنون والثقافة، بشكل عام. فالاستماع، والمشاهدة، واقتناء الشرائط، والاسطوانات، كلها أشكال استقبال استهلاكية، لا يكون فيها الإنسان إلا طرفًا سلبيًا. إنها حقًا لكارثة حضارية، أن نذهب الى حفلات الموسيقى، وحياتنا خالية من أخلاقيات الموسيقى، وجماليات الغِناء .    
نحن نعتبر الموسيقى شيئًا خارجيًا، نقضى معه وقت الفراغ، والتسلية. وعند البعض لا تزيد الموسيقى على كونها، مهنة، أو حرفة، مثل هذه التصورات عن الموسيقى، تجسد جزءًا من مأساة الإنسان المعاصر. فقد أصبح فى علاقته بالحياة كلها، يتلقى من الخارج، ولا يعطى من الداخل.
إن جوهر الموسيقى، بل جوهر الفنون كلها، هو أن يكتشف الإنسان ذاته الحقيقية، وأن يلمس ذلك الخيط السحرى الواصل بين ذاته والعالم. إن هذه الوحدة، سواء على مستوى الذات، أو على مستوى الذات والعالم، هى السر فى الابتهاج الطاغى، الذى نحسه حين نستمع إلى الموسيقى، فى لحظة من اللحظات.
إن المعزوفة الموسيقية، أسعدتنا، لأنها جعلتنا نكتشف الموسيقى التى بداخلنا.
هى لحظة ضوء، وكشف، ودهشة، وانبهار، ونشوة عليا. وهى لحظة بالنسبة لغالبية الناس، ليست واعية، أو شعورية، وليس لها من التفسير، القابل للوصف. كل الذى يمكن أن يدركوه، أنهم فى حالة رائعة من الإقبال على الحياة.
إن هذا الإقبال على الحياة، الذى تصنعه معزوفة موسيقية، غير ممكن، إلا إذا كان معناه أننا أصبحنا أكثر اقترابًا، من طاقة الحياة بداخلنا.
نستطيع الآن، إدراك، خطورة الانفصال بين لحظات الاستمتاع بالموسيقى، التى هى لحظات مؤقتة، من ناحية، ونمط حياتنا العادى، من ناحية أخرى.
إن هذا الانفصال، يُشكل نوعًا من «الاغتراب»، قد لا يعيه، أو يحسه الإنسان. لكنه موجود، ويمارس ضغوطه النفسية الحادة، بالإضافة إلى الاغتراب، فإن هذا الانفصال، المتجسد فى حقيقة أن الإنسان أصبح متلقيًا، لا مانحًا، هو أكثر شكل من أشكال الأنانية.
إن استقرار،ـ وتأصل «السلوك الموسيقى»، هو المعين الذى لا ينضب، منه نأخذ، لكى نبدع للحياة، ونقدم لها الدليل على أننا نستحق هباتها. وأيضًا لنقدم الدليل لأنفسنا، أننا فى علاقة ندية مع الكون. هو يعطينا ونحن نعطيه، قدر ما نستطيع.
كيف تتحول تلك اللحظة المؤقتة، التى تجتاحنا عند الاستماع إلى الموسيقى، إلى لحظة ممتدة فى الحياة؟ هذا هو بيت القصيد .
إن الإبداع فى الحياة، ليس بالضرورة موهبة خلق الأعمال الفنية، لكنه القدرة على أن نعيش الحياة بجمال، وأن نرهف السمع لصوت الخير والعدل، داخلنا وخارجنا. وأن نقاوم ميول الشر، والتعصب، والعنف، وأن نتصالح مع أنفسنا، ومع البيعة. وأن تُغلف تصرفاتنا بالتواضع أمام جلال الكون، ورحابته، وثرائه.
عالمنا المعاصر، أكبر دليل على انفصال الجانب المادى، عن الجانب المعنوى، فى الموسيقى بشكل خاص، وفى الفن بشكل عام،     على الرغم من انتشار عدد لا بأس به، من الأعمال الفنية، والموسيقية، على مستوى العالم، الا أنه عالم فى عداء واضح مع جماليات الفن، والقيم الموسيقية. إنه عالم تسيطر عليه الميول العدوانية، والأنانية. وهو عالم صاخب، عنيف، جشع الأهواء.
إنه عالم يجهض كل تناغم ممكن، ولا تطربه إلا النغمات «النشاز»، والنتيجة أنه عالم تعس، ضلّ الطريق إلى ما يطهر النفوس من عزلتها الموحشة، وإلى ما بإمكانه أن يعيد للبشر تواصلهم، بعد حصار الكذب، والشهوات الزائلة.
لقد فقد عالمنا المعاصر، لغة التخاطب بينه وبين أنشودة الكون الأبدية. نعم، فكل شيء حولنا يُغنى، وكل شيء حولنا يعزف على أوتار سرية. أو كما عبر «شكسبير» .. «لكل شىء إيقاع وبناء على ذلك أرقص له الإجابة».
إن الفن الموسيقى، بشكل خاص، له القدرة على احتواء الناس. فالموسيقى طاقة سحرية غامضة، تستطيع شغل الفراغ الداخلى والخارجى، فى آن واحد، بتوهج الشحنة الانفعالية ذاتها.
وهذا لن يحدث إلا إذا تحولت الموسيقى، من مجرد سلعة للاستهلاك المؤقت، أو مهنة فى سلم الوظائف، أو أداة للترفيه، أو مناسبة لعقد المهرجانات، إلى «عادة» نفسية، واجتماعية يومية، نمارسها دون جهد، مثل التنفس، والحركة، والكلام، والاشتياق الى الحب .
 من واحة أشعارى
 يعزف على أصابع البيانو
 وهو بينهم الكفيف
فأبصر الموسيقى وأرى النغمات
تعانق سِحر الخريف.