الإثنين 7 أبريل 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
سنوات «عودة الروح» للهوية المصرية!

سنوات «عودة الروح» للهوية المصرية!


مثلما كانت مصر على موعد مع القدر كى يقيد لها حُكامًا أقوياء استطاعوا إنهاء فترات الضعف والتقسيم، وإقامة دولة قوية قادرة على توسيع مساحة الإقليم، وقيادة الحملات العسكرية لتأمين الحدود، كانت على موعد أيضًا مع فترات ضعف تاريخية، تولى خلالها الحُكم عددٌ من غير المصريين.

فى الحلقات الماضية عرضنا بعضًا من سِيَر الأجداد العظام، وفى السطور التالية نستعرض بعضًا من سِيَر مجموعة أخرى من حُكام مصر القديمة الذين سَجّل لهم التاريخ مواقف صعبة، فمنهم من ترك الحُكم وفَرَّ إلى الجنوب، ومنهم من اعتمد على المرتزقة من شعوب البحر المتوسط فى بناء الجيش.


شاشانق الأول

ينحدر المَلك شاشانق الأول من أصول ليبية. وكان من الجنود الليبيين الذين تم توظيفهم فى الجيش المصرى فى نهاية عصر الدولة الحديثة فى منطقة الدلتا. والمَلك شاشانق الأول هو مؤسّس الأسرة الثانية والعشرين الليبية، أو الأسرة البوباسطية، كما يطلق عليها المؤرخ المصرى الشهير مانيتون السمنودى، وذلك نسبة إلى منطقة تل بسطة التى عاشوا فيها فى شرق الدلتا، حُكم شاشانق الأول من عام 945 إلى عام 924 قبل الميلاد، وعُرف باسم شاشانق مرى آمون حكا خبر رع ستب إن رع. وكان هو البداية للفرع الليبى المتمَصّر الذى حَكم مصر لمدة مائتى عام. ودعم موقف المَلك شاشانق الأول أنه جاء من خلفية عسكرية؛ إذ كان القائد الأعلى لكل الجيوش المصرية.
كان شاشانق حاكمًا قويّا وحَّدَ مصر المُقسَّمة إلى مدينتين حاكمتين: الأولى فى تانيس فى شرق الدلتا فى الشمال، والأخرَى طيبة فى الجنوب، فى دولة واحدة تحت سُلطته، وجمع فى يديه بين السُّلطتين الدينية والمدنية حين قام بتعيين ابنه الأمير إيبوت فى منصب حاكم مصر العليا أو الصعيد، وفى الوقت نفسه عيَّنَه ككبير كهنة الإله آمون، وفى منصب القائد الأعلى لكل الجيوش المصرية.
كان على المَلك شاشانق الأول أن يتوجه إلى بلاد الشام كى يبحث عن ويحافظ على، ويعيد أملاك الإمبراطورية المصرية القديمة فى بلاد الشرق الأدنى القديم إلى السيطرة المصرية المنسحبة من هناك بعد نهاية عصر الدولة الحديثة، عصر الفراعنة المحاربين العظام الذين كان آخرهم المحارب العظيم المَلك رمسيس الثالث.
بعد وفاة المَلك سليمان، تعرضت كل من مملكتَى يهودا وإسرائيل تحت حُكم رحبعام ابن سليمان ويربعام الأول للهجوم العسكرى المصرى القوى بقيادة المَلك شاشانق الأول، أو المَلك شيشاق كما تطلق عليه التوراة. وهزم المَلك المصرى شاشانق الأول المَملكتين شر هزيمة فى عام 925 قبل ميلاد السيد المسيح- عليه السلام- فى حملة عسكرية لم تَرَ أرض فلسطين مثلها منذ أيام المحارب العظيم المَلك رمسيس الثالث، آخر فراعنة مصر العظام.
ورُغم أن المَلك شاشانق الأول كان من أصول ليبية؛ فإنه عاش وتَرَبَّى فى مصر والتحق بالجيش المصرى. وتزوج من ابنة المَلك المصرى السابق عليه، فأدى أداءً عسكريًا وسياسيًا مبهرًا كأى فرعون مصرى من قَبل مُقلدًا أسلافه من الفراعنة العظام وأعاد مجد الإمبراطورية المصرية إلى بلاد الشرق الأدنى القديم بعد أن اختفى الوجود المصرى منذ نهاية عصر الدولة الحديثة.


طاهرقا

بعد انهيار السُّلطة المركزية فى مصر الفرعونية بعد الحُكم الليبى، أخذ الكوشيون أو النوبيون الموجودون إلى الجنوب يتطلعون إلى حُكم مصر غير أنهم لم ينظروا للأمر على أنه غزو للشمال، ولكنهم رأوا أنهم يرممون الدولة العظيمة وينقذون سُلطة وسيادة المعبود آمون، ذلك الرب الذى دانوا له بالعبادة والقداسة والولاء منذ أمد بعيد.
تحرَّك المَلك بيعنخى أو «بيا» إلى الشمال ضد مجموعة مكونة من أربعة ملوك مصريين فى العام الحادى والعشرين من حُكمه الكوشى أو النوبى، أى فى نحو العام 727 قبل الميلاد، وانتصر عليهم، ومن هنا جاء الحُكم الكوشى أو النوبى إلى مصر، الذى نعرفه عادة بحُكم الأسرة الخامسة والعشرين الكوشية فى تاريخ مصر الفرعونية.
ومن سلالة المَلك الكوشى أو النوبى بعنخى، جاء بعد فترة المَلك الأشهر طاهرقا الذى خلف أخاه المَلك شبتكو فى حُكم مصر كفرعون من أصول كوشية أو نوبية  مُتمصّرة. ويُعتبر اسم المَلك طاهرقا أكثر الأسماء شهرة وارتباطًا بالأسرة الخامسة والعشرين الكوشية؛ نظرًا لأنه أكثر الفراعنة ذوى البشرة السمراء بناءً وتعميرًا فى مصر.
كانت فترة حُكم المَلك طاهرقا من فترات المواجهة الشرسة مع قوة الإمبراطورية الآشورية الضاربة فى منطقة الشرق الأدنى القديم. وفى عام 671  قبل الميلاد، هاجم المَلك الآشورى آسر حدون مصرَ وتعمق فيها بشدة حتى احتل العاصمة المصرية الأزلية منف، وأسَرَ ولى العهد المنتظر وكل أفراد عائلة المَلك طاهرقا ما عدا المَلك طاهرقا نفسه الذى هرب إلى الجنوب إلى مدينة طيبة أو الأقصر الحالية.
ثم قام المَلك الآشورى آشوربانبيال بغزو مصر لاحقًا والقضاء على كل نبلاء الشمال، وبذلك فقد طاهرقا العاصمة منف ثانية، وهرب إلى الجنوب، إلى ما وراء طيبة إلى عاصمته البعيدة ناباتا فى أقصى الجنوب تلك المرّة، وهكذا انتهى حُكم دولة كوش الضعيفة التى لم تستطع أن تحكم مصر القوية التى من رحمها جاء ملوك الأسرة التالية، وأعنى الأسرة السادسة والعشرين الصاوية، الذين وحّدوا مصر تحت حُكم وطنى، وأعادوا لمصر مجدها القديم لفترة قصيرة من الزمن قبل أفول نجم مصر الفرعونية.


بسماتيك الأول


يُعَد المَلك بسماتيك الأول واحدًا من أفضل الملوك ودُهاة الملوك السياسيين، تولى حُكم مصر فى فترة عصيبة فى عصرها المتأخر، وقادها إلى المجد والقوة والنهضة ثانية، فكانت أشبه بابتسامة مبتسرة قبل أن يتم إسدال الستار على تاريخ وحضارة مصر الفرعونية، وقبل أن تتحول إلى مملكة يحكمها الغرباء، وأعنى الإسكندر الأكبر وخلفاءه من الملوك البطالمة.
وبفرض الآشوريين قبضتهم القوية على حُكم مصر بعد هروب الكوشيين أو النوبيين إلى بلادهم البعيدة، انتهت الأسرة الخامسة والعشرين النوبية للأبد، وبدأت فى التشكل والظهور الأسرة السادسة والعشرون الصاوية المصرية الوطنية تحت حُكم الآشوريين حين قام الآشوريون بقيادة مَلكهم الأشهر آشوربانيبال بتعيين نكاو أو نخاو، أو نكاو أو نخاو الأول كحاكم على مدينة سايس وابنه بسماتيك الأول كحاكم على مدينة أثريب أو أتريب بالقرب من بنها فى القليوبية فى الدلتا. وقام الملوك الصاويون بفرض سيطرتهم على الدلتا شيئًا فشيئًا كحُكام تابعين للآشوريين. وفى عام 664 قبل الميلاد، مات نكاو أو نخاو الأول، فقام الآشوريون بتعيين ابنه بسماتيك الأول كمَلك على مصر ككل.. ولم يكن صعبًا على المَلك العسكرى والسياسى المحنك بسماتيك الأول أن يسيطر على الدلتا التى جاء منها؛ خصوصًا أن أمراء الدلتا كانوا ضعافًا وحُكامها لم يكونوا يشكلون أى خطورة تُذكَر عليه وتحديدًا بعد أن مَهَّدَ له أبوه الحُكم أثناء فترة تبعيته للحُكم الآشورى، غير أن الصعوبة الحقيقية التى واجهها المَلك بسماتيك الأول كانت هى كيفية سيطرته على الصعيد المصرى البعيد عن الدلتا والعصى على السيطرة والاعتراف بحُكمه، وتحديدًا مدينة طيبة العاصمة الدينية العريقة ومركز عبادة الرب الأكبر الإله آمون.
أثبت المَلك بسماتيك الأول أنه سياسى محنك ورجُل دولة من طراز رفيع؛ ففى عام 656 قبل الميلاد أرسل ابنته الأميرة نيوت إقرت أو نيوتكريس إلى طيبة عاصمة مصر الدينية الكبرى، كى يتم تعيينها كزوجة مستقبلية للإله آمون رب طيبة الأعظم، وكى يضمن السيطرة الدينية، ومن ثم السياسية على طيبة وعلى الجنوب، وكذلك كان بسماتيك الأول من الذكاء بمكان حين استخدم نبلاء الجنوب، ولم يعادِ منهم أحدًا.
اتجه بسماتيك الأول ببصره إلى خارج الحدود بعد أن أمَّن دولته فى الداخل. وحاول استعادة أمجاد ملوك مصر السابقين فى الشرق الأدنى القديم، فكوَّنَ جيشًا من جنود بلاد البحر الأبيض المتوسط، فجمع عددًا كبيرًا منهم من الإغريق والكاريين وغيرهم.
فى عام 653 قبل الميلاد، استغل بسماتيك الأول انشغال ملوك آشور بأمورهم الداخلية، وانسلخ من سيطرتهم، وهم أيضًا لم يهتموا بانفصاله عنهم؛ نظرًا لشدة الصراع الداخلى على العرش لديهم، وتهديد قوة بابل الصاعدة من الجنوب لهم، فكان لبسماتيك الأول ما أراد.
حَكم بسماتيك الأول مصر لمدة تزيد على نصف قرن نحو 54 عامًا، أعاد مصر فيها إلى عصر الاستقرار والقيم الدينية الراسخة فى عقيدة المصريين القدماء.