
د. مني حلمي
«متعة» الصيد فى الماء العكر
أكره عملية «الصيد»، التى مارسها الجنس البشرى، منذ الأزل، وما زال يفتخر بها، بل ويراها عنوانًا للتحضر، والتأقلم، والارتقاء. وإن كنت أغفر للكائنات غير البشرية مثل الطيور، والحيوانات، أنها للبقاء على قيد الحياة، لا بد لها من الصيد، إلا أننى مع البشر، أعتبرها «جريمة»، أو «عارًا»، يدعو الى الخجل، والاشمئزاز، لا إلى الافتخار.
هل هذا معقول؟.. أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذى «يقتل»، و«يصطاد» الآخرين، وهو لا يشعر بالجوع، ولا يحتاج الى سفك الدماء، لكى يواصل الحياة، بل يفعل ذلك وهو «شبعان»، على عكس الطيور والحيوانات، حتى المتوحشة والمتنمرة، والجارحة منها، لا تؤذى، ولا تقتل، ولا تصطاد، الا لتأكل، أو تطعم صغارها.
أكره «العقلية»التى تقف وراء «الصيد»، والدوافع النفسية التى تحفز على عملية «الاصطياد». عقلية «الصياد» الأقوى، و«الفريسة» الأضعف. الصياد الذى يخطط، ويتربص، ويراقب، ويترقب، ويتجسس، ويخطف، يصنع الشِباك، ويرتب الفخ، ويعد المصيدة، وعندما تقع الفريسة، يحتفل، ويفرح، ويأكل، ويشرب، ويسمى الأمر «انتصارًا»، و «تفوقًا».
إذن «الصياد»، و«الفريسة»، علاقة غير متكافئة، أساسها «السيطرة»، من جانب الصياد، و«الخضوع»، من جانب الفريسة.
وهذا منطق نجده فى العلاقات الإنسانية بين الأفراد، بين النساء والرجال، وبين الجماعات والدول. فى أى علاقة، هناك منْ «يصطاد»، وهناك منْ تخدعه«المصيدة». هناك منْ يطعن بالسِكين، وهناك منْ يسيل دمه. هناك منْ يأكل، وهناك منْ يؤكل. هناك منْ يختبئ بين الأشجار، فى الأدغال، فى الغابات، يرتدى قناعًا، أو لا يرتدى، ينتظر دون ملل، قدوم «الغنيمة»، و«ينشن» بدم بارد، وهناك منْ يتلقى الرصاصة البارعة فى الصدر، أو فى القلب. ما أكثر محترفى الصيد، وما أكثر محترفى الوقوع.
إذا أردنا فهم علاقة معينة، مشكلاتها، واضطرابها، وآفاق مستقبلها، فما علينا إلا تحديد منْ يقوم بدور «الصياد»، ومنْ يقوم بدور «الفريسة».
وأليست «الذكورية» المتأصلة فى الجنس البشرى، والواضحة فى الثقافة، والإعلام، والتربية الدينية، وقوانين الأحوال الشخصية، وعلاقات الحب، هى التراكم التاريخى الطويل، لعقلية «الصياد».. الرجل، و«الفريسة»... المرأة؟.
لأننى كاتبة وشاعرة، أرفض ما أسمعه دائمًا أن الكتابة، أو الشِعر، هى عملية«اصطياد» للكلمات. لا أقبل أن أكون «الصياد»، وأن تكون القصيدة هى «الفريسة». علاقة الكاتبة، والشاعرة بالكلمات، هى عناق حقيقى، شغف متبادل، ولقاء عاطفى، ورغبة مشتركة. هى أبعد ما تكون عن عقلية «الصيد» المغرورة، المتسلطة، العنصرية .
«الصيد فى الماء العكر»، تصف الشخص الذى يصل على أكتاف الآخرين، والشخص الذى ينتهز وجود ضعف ما، أو سوء فهم ما، أو مشكلة ما، لكى يربح، قيمة، أو مالًا، أو مكانة، أو علاقة، أو شهرة.
الصيد، فى «الماء النظيف»، لا يروق لى. ولكن «الصيد فى الماء العكر»، أكثر إفسادًا، وتلوثًا، ومتعة أشد مرضًا .
وما أكثر «الصيد فى الماء العكر»، الذى يحيط بنا، ويفسد حياتنا، ويعطل رحلتنا. بل إن هناك مجموعة من البشر، كل اختصاصها، هو التربص بالسقطة، واللقطة، والبحث عن القطط الفاطسة، كما يقولون. تخصص قديم، يتغير مع اختلاف العصر، تتجدد فيه «الشِباك»، وتتفنن العقول فى صناعة الأفخاخ، والمصائد.
حصار من «الصيد فى الماء العكر»، يخلق شائعات، يفبرك أخبارًا، يزيف أحداثًا، يزور أرقامًا، يقص ويلصق الصور والنشرات.
هل نسمح لهذا الحصار المتربص، الصائد فى الماء العكر، أن «يعكر» حياتنا، ويؤثر على ثقتنا، وينال من إرادتنا ؟؟.
- لا أعتقد. فالماء العكر، لم يحدث أبدًا أن أطفأ ظمأ الناس. أرض «النيل»، التى تعهدت على مر الزمان، أن تحقق لنا الارتواء، لن يلوثها «شوية»، ماء عكر، يسرى هنا أو هناك.
من واحة أشعارى
دائمًا فى كل زمان وفى كل مكان يبحث البشر عن خيوط أكثر تربطهم بالحياة وأنا منذ ولدتنى أمى أواصل قطع الخيوط التى تشدنى إليها.