
د. مني حلمي
أمى نوال السعداوى ومسك الختان
تكلمت وقالت كلمتها كما تؤمن بها وكان هذا كفيلا بأن يفتح عليها نار جهنم. طردوها من وظيفتها فى وزارة الصحة، وأغلقوا مجلة الصحة التى ترأس تحريرها، وكفروها فى دينها، وشتموها فى أخلاقها، واعتبروها ضد الطبيعة، وضد التعاليم الدينية، وضد الطب، وضد عفة الأخلاق، وضد الوطنية، لمصلحة الغرب الاستعمارى الكافر، وضد مصلحة الإناث والأسرة، وضد هناء بال وسعادة الرجال الأزواج، وضد ضمان الدفء الأسرى للأطفال الأبرياء الأنقياء أحباب الله.
تمت مصادرة كتبها، ورواياتها، وطالبوا بقطع رقبتها، وإهدار دمها، ونفيها وسحب جنسيتها المصرية، وتم التعتيم عليها من كافة الاتجاهات، بما فيها التى تتكلم باسم النساء، والصحة، والتنوير، والعدالة الاجتماعية، وحرية الرأى والتعبير الأدبى الفنى.
أصبحت نوال السعداوى، أمى، فى القائمة المنبوذة، لأنها لم تتخلّ عما تؤمن به، ولا ترضى الرضوخ. وحتى عندما رفعوا ضدها قضايا الحسبة، وازدراء الأديان، وسحب الجنسية، لم تغير مواقفها السلمية، التى خاضتها جميعا، وهى منزوعة السلاح، لا تحمل إلا القلم، ومزاجها العنيد الذى يكره «الانحناء»، لأى سلطة ، ولا يعرف شيئا اسمه «الخوف».
وحتى الآن، ما زال هناك المتربصون بها، يزجون باسمها فى بلاغات، وأكاذيب، وشائعات، وتقولات، بسبب فقرة فى رواية أدبية، أو فصل فى مسرحية من محض الخيال، أو مؤتمر فى تونس أو إنجلترا أو الصين أو إسبانيا أو اليابان، تتحدث عن كرامة النساء وكرامة الرجال وكرامة الوطن، ودعوة جاءتها للاحتفال بترجمة لإحدى رواياتها الأدبية الجديدة، أو القديمة. هذا الخناق المحكم من كل الاتجاهات، ثلاثة أجيال متعاقبة، بدأ بشىء اسمه مقاومة «ختان الإناث» أتذكر كل الكفاح غير المسلح، لنوال السعداوى، أمى، منذ ستين عاما، وأنا أرى اليوم كيف يتم تمجيد، وتكريم «مناهضة ختان الإناث»، وتشجيع الحملات الفردية والجماعية ضد ممارسته، من قبل مؤسسات الدولة على اختلاف تخصصاتها، حتى المؤسسات الدينية الرسمية وغير الرسمية، التى لعبت الدور الأكبر فى الحرب الدينية والأخلاقية، على أمى. بصراحة أقولها، كابنتها شاهدة عيان لسنوات طويلة: « قرفونا فى عيشتنا»، و«عكننوا علينا حياتنا».
ما تسبب فى « سوء سُمعتها» الخاصة والعامة، أصبح الآن من دواعى الشرف، والوطنية، والفضيلة، والدين، والفخر، والتنوير، وكرامة النساء، ومحاربة جمود العقل، وتجديد الموروثات، وكسب الشهرة والأوسمة، والجوائز، وشهادات التقدير، والامتنان والعرفان بالجميل.
أتذكر كيف دفعت نوال السعداوى، أمى، ثمنا باهظا على مدى عقود من الزمان، حرمتها الأمان، والإنصاف، وكلمة صدق واحدة موثقة بالتواريخ، عن ريادتها لإثارة موضوع «ختان الإناث» فى بلادنا. ولم تكن لتجد الدعم المعنوى والأدبى، إلا من أسرتها الصغيرة. فأفراد العائلة السعداوية الكبيرة، انضمت إلى المناخ العام، وتنكرت منها، واستنكرت أقوالها، وكتاباتها، ووصفتها بالكفر، والدعوة إلى الانحلال الأخلاقى، وقاطعوها شر قطيعة، لأنها «شيطان العائلة».
بالصدفة وقعت تحت يدى، فى إحدى الجرائد، خبرا يحمل البشرى، إلى المصريات والمصريين، بعد طول انتظار. يقول الخبر: «... وهكذا تم تدشين وإعلان اليوم المصرى لمناهضة الختان، وتم تخصيص جوائز باسم رائدات الختان، وهما فلانة وفلانة» بحكم متابعتى لقضية الختان فى مصر، حيث كنت شاهدة واقعية، لسنوات طويلة، على تجربة أمى، والتى كانت أول منْ نطق كلمة الختان، وكانت من المحرمات، لم أتذكر أننى سمعت، أو قرأت، عن اسمى رائدتى الختان المذكورتين فى الجريدة. ربما واحدة منهما، سمعت أنها تعيش منذ عقود طويلة فى إحدى البلاد الغربية. والأخرى كان لها نشاط خيرى عن النساء، بحكم الوظيفة الرسمية، لا علاقة لها بالختان. ولم أسمع أن أيا منهما، دخلت قائمة منبوذة.
إن أمى، لا تريد جوائز، وأوسمة، وتكريمات، وشهرة، واحتفالات .
لم يكن هذا من أهدافها، فى يوم من الأيام، منذ تخرجت شابة فى كلية طب قصر العينى فى منتصف خمسينيات القرن الماضى. وإذا كانت قد علمتنى شيئا، واحدا فى الحياة، فهو «الاستغناء»، وأن أؤمن بنفسى وكلمتى، وأستمر فى الكتابة، وتجاهل كل ما يأتى، من العالم الخارجى. «جائزة الاستغناء عن الجوائز». كما أننى لا أدافع عن امرأة، هى بالدم، أمى. فهذا سيكون منتهى العقوق، والجحود. فهى التى تدافع عنى، وليس أنا التى تدافع عنها. وفى الأساس، فإن كل إنسان يدافع عن نفسه بإنجازاته، والناس تحكم من خلال مواقفه، وتاريخه.
لكننى فى سطورى هذه، أشارك دهشتى مع القارئات، والقراء، من تلك الرغبة الدفينة الأزلية الأبدية، لدفن الأحياء من النساء والرجال، على الملأ، فى الصباح على صفحات الجرائد. «أمال لما يموتوا هيتعمل فيهم إيه؟».
إن التاريخ القديم والحديث، يمتلئ بقصص المبدعات والمبدعين، الذين تم حرقهم، وشنقهم، وسلخهم، وسفك دمائهم، وصلبهم، ووضعهم فوق الخوازيق. وهناك آخرين، اختفوا فى ظروف غامضة لم تحل حتى الآن.
إن « سقراط»، الأب الأصيل للفلسفة، اتهمته السلطات السياسية، والدينية، بالتهمة العتيقة نفسها، «إفساد الشعب»، و«إفساد الشباب». بينما كان « سقراط»، يدعوهم إلى التفكير الجدلى الحر، والبحث عن جذور الأفكار، وأصول الأشياء. وانتهى به الأمر، فى زنزانة ضيقة، محكوم عليه بالاعدام بتجرع السم.
كان هذا فى عام 399 قبل الميلاد، فى أثينا القديمة. لكنه استمر بعد الميلاد. التهمة واحدة. والحرب واحدة. والدافع هو نفسه... تعطيل الترقى الإنسانى، والحرية الإنسانية، والكرامة الإنسانية، والعدل الإنسانى. وأن أرتدى أثوابا مختلفة، وتنكر فى ملامح مغايرة، وعقوبات مستحدثة.