
هناء فتحى
ذهب مع الريح.. فعلًا
..وكأن أمريكا قد عادت إلى الوراء كثيرًا.. وكأن 158 عامًا فى تاريخ البلاد لم تبرح مكانها أبدًا.. وكأن حربًا أهلية لم تحدث وكأن دستورًا عظيما لم يُكْتَب بعد.
ففى اللحظة التى تم فيها الإعلان - منذ أسبوعين - عن عمل مزاد لبيع البيت والمزرعة وكل ما يتعلق بالمكان الذى تم بداخله تصوير فيلم « ذهب مع الريح»، الفيلم الذى لم يبرح الذاكرة الإنسانية والسينمائية كلها.. الفيلم المأخوذ عن رواية بذات الاسم للصحفية والروائية «مارجريت ميتشيل» الذى أرّخ وأرشف حكايا الحرب الأهلية الأمريكية التى استمرت لأربع سنوات بين ولايات الشمال الأمريكى وولايات الجنوب لإنهاء عبودية الأمريكى الأبيض للأمريكى الأسود عام 1861 ومات فيها 750000 جندى .. فى تلك اللحظة سنكتشف أنهم قد باعوا الدماء والبيت والتاريخ والميراث والحلم الأمريكى ولم يتبق لهم ولنا سوى أكذوبة.. فكل شيء قد ذهب مع الريح.. فالجنود الأمريكان يموتون فى حروب لا تخصهم ببلادنا.. والمواطنون السود الأمريكان يموتون على أسفلت البلاد برصاص البوليس الأمريكى لا يزالون.
وسنسأل كثيرًا عن القدر الذى حمل ترامب - جاء إثر نهاية ولاية رئيس أسود من أصول أفريقية - الذى صار رئيسًا أبيض من أصول ألمانية متهمًا بالعنصرية، وبين بيع البيت الذى شهد فترة عظيمة من التاريخ الأمريكى حدثت لإنهاء العنصرية.. البيت الذى شهد أشهر قبلة فى التاريخ السينمائى وأجمل قصة حب فى التاريخ الإنسانى بين «فيفيان لى» و« كلارك جيبل».
تم الإعلان عن مزاد لبيع البيت الكلاسيكى الأثرى الذى تم بناؤه عام 1836 قبل الحرب الأهلية الأمريكية والذى تم تسعيره منذ عامين بمليونىّ دولار.. البيت بالمزرعة مساحته عشرة آلاف قدم مربع وبه 12 حجرة نوم و6 حمامات و3 فدادين حدائق وشرفة تاريخية للمراقبة ورواق تحوطه أشجار الأوكا الضخمة وبه 4 مطابخ كبرى ومحول نحاس ومحطة كهرباء و2 حمام سباحة سعر كل واحد فيهما 14 ألف دولار.
كان هذا هو مُصَغّر الحلم الأمريكى الذى سيباع للمواطنين ولن يدخل ذاكرة المتاحف الأمريكية.. وهذا سؤال: لماذا لم يُدْرَج البيت كمتحف خاصة أن التاريخ الأمريكى كله قريب وليس ضاربًا فى القدم؟ أمريكا ليست دولة ذات حضارات كبلادنا لذا فهى تصنع من الفسيخ شربات ومن أى مبنى قديم « شوية» عمره مائة عام متحفًا يرتاده الزائرون.
ولذا سنجد أن بيت الكاتبة الأمريكية مارجريت ميتشيل مؤلفة رواية - روايتها الوحيدة - ذهب مع الريح قد أُدْرِجَ كمتحف عام 1997 ويقع المنزل فى وسط أتلانتا وبه كل أوراق الرواية وكل وثائق الحرب أوراقًا وأشرطةً وهو مفتوح للجمهور ولم يتم بيعه.. ربما يحدث فيما بعد!
الإعلان عن مزاد لبيع البيت الأمريكى الشاهد على التاريخ يشبه الإعلان عن بيع الحلم برمته .. أو يشبه لحظة الصحو والإفاقة بعد النوم فى كابوس ليل الرأسمالية الطويل.. الكابوس الذى لونته الدماء وتناثرت على جنباته جثث البلاد الفقيرة الضعيفة المحتلة بأعدائها من الداخل والخارج .. الدول التى لا تزال تنتظر أحلام وأوامر سيد البيت الأبيض الذى انتصر فقط للون الأبيض ليعلن عنصريةً فجة دونها موت وخراب العالم .
أما عن الفيلم الذى ذهب مع الريح الأمريكى والذى تم تصويره فى كاليفورنيا عام 1939 للمخرج «فيكتور فيلمينج» والحاصل على 8 جوائز أوسكار والحائز على المرتبة الرابعة فى قائمة أفضل مائة فيلم التى اختارها معهد الفيلم الأمريكى والذى تكلف إنتاجه 4 ملايين دولار وحقق أكثر من 400 مليون دولار إيرادات.. والذى تحول - هكذا - من فيلم روائى تاريخى إلى ما يشبه أفلام الخيال العلمى التى ربما تتحقق فى يوم ما.. بمعنى: ربما ستقوم حربٌ أهلية أمريكية تنهى عنصرية واضحة مقيتة تجاه اللون الأسود.. وربما يتمكنون من إنجاز دستور ينتصر لكل المواطنين.