د. مني حلمي
ثورة يوليو لن تذهب إلى متاحف التاريخ
يبدو أنه من طبائع الأمور، وأقدار الشعوب، أن هناك دائمًا منْ يتربص بمسيرة الحرية، المضيئة، يحاول إظلامها، التشكيك فيها، التحريض على إدانتها، ولعن اليوم الذى ولدت فيه.
يبدو أن مثلما البحار، والطيور، والأشجار، من معالم كوكب الأرض، يوجد أيضًا منْ تخصص فى سرقة أروع أيام التاريخ، ومنْ جعل مهمته الأولى، الأساسية، إفساد الشىء الوحيد المشرف للبشر... «الثورة».
فى مقالى هذا، لست أنوى الدفاع عن ثورة يوليو 1952، بعد مرور 67 عاما على قيامها، فالدفاع عن الأشياء، يقلل من قيمتها، ويدعو إلى الشك. ولست أيضًا، فى حاجة إلى التذكير بإنجازاتها، فأى إنجاز كفيل بأن يتحدث باسمه، ولا أحد مهما كانت نواياه الحسنة، أن يتولى الحديث بالنيابة عنه.
لكننى أود مناقشة ظاهرة تاريخية، عرفتها جميع الثورات التى قامت بها البشرية، للتحرر من القيود، ولأخذ مساحة أكبر تحت الشمس.
الظاهرة، هى العداء للثورة، ومحاولة إظهارها على أنها «مجحفة»، «تعسفية»، « فوقية»، «غير شعبية بما يكفى»، «عديمة الخبرة»،
«لها أجندة خافية»، «أضرت بالاقتصاد والسياسة والثقافة»، وإلى غيرها من الاتهامات التى تواكب الثورة، وتستمر بعدها، ولا تخمد.
وثورة يوليو 1952، ليست استثناء من التاريخ. وبالتالى كان لا بد أن تأخذ نصيبها، من العداء، الذى يجد وقوده المحفز، فى أنها ثورة، ذات أخطاء لا يمكن تجاهلها، أو السكوت عليها.
نعم، ثورة يوليو كان لها أخطاء. وربما أخطاء من النوع الثقيل، الذى لا تذهب تبعاته بسهولة. ولكن السؤال الذى يهمنى، هو هل عرف تاريخ الشعوب، ثورة بدون أخطاء؟؟. أخطاء هينة، أو أخطاء جسيمة ؟. هل قرأنا قديمًا، أو حديثًا، عن ثورة، كانت مائة فى المائة، منزهة عن الأخطاء ؟؟. هل هناك ثورة، تستطيع أن تزعم، أنها نظيفة، وحكيمة، وعادلة، ورشيدة، وبريئة، وحنونة، وطيبة، ورحيمة، مائة فى المائة؟.
ثم أليست الأخطاء، هى الحقيقة الوحيدة، فى الحياة ؟؟. بمعنى أن لولا الأخطاء، ما كانت البشرية لتتعلم شيئا. لولا الحماقات، لما توصلنا إلى الحكمة. والدرس الأكثر قسوة، هو أنه كلما كبر حجم الخطأ، جاءت الإفادة أكبر. وكلما نزلنا إلى قاع الحماقة، صعدنا أسرع إلى قمة الحكمة. وهذا ينطبق على حياة الأفراد، والجماعات، طول الوقت، حتى بدون ثورات. فما بال فى وقت الثورة، التى تهدم، لتبنى، وتنهى، لتبدأ ؟؟.
ولنسأل أنفسنا، هل ثورة العبيد كانت بدون أخطاء؟؟. هل الثورة الروسية كانت بدون أخطاء؟. هل كانت الثورة الفرنسية بدون أخطاء؟؟. هل ثورة الهند بدون أخطاء ؟. هل ثورة 25 يناير بدون أخطاء؟.
إذن وجود أخطاء، شىء وارد، وطبيعى، وضرورى. السؤال المهم بالتالى، ليس هل توجد أخطاء، أو لا توجد، ولكن ماذا كان «الدافع» وراء هذه الأخطاء؟. ما هى الأسباب السياسية، والاقتصادية، والثقافية، والدينية، المحلية، والخارجية، التى دفعت إلى وجود الخطأ، أصلًا؟.
ولا يفوتنا بالطبع، أن كلمة «أخطاء»، هى شيء نسبى. فما يُعتبر خطأ من وجهة نظر، طبقة معينة، أو شريحة معينة، أو فئة معينة، أو دولة معينة، لا يعتبر خطأ لطبقة أخرى، وشريحة أخرى، وفئة أخرى، ودولة أخرى. طبيعى جدًا، أن ما هو ضد «مصلحة» رأس المال، لحساب اليد العاملة، سوف يُعتبر خطأً جسيماً، من وجهة نظر، أصحاب رأس المال، بينما هو صواب عادل، من وجهة نظر العمل. وطبيعى جدا، أن ما يحقق تحرر واستقلال الشعوب المستضعفة، سيكون عدوا لدودا للبلاد التى تريد استمرار الهيمنة، والتخلف، والنهب، والسرقة.
أعتقد أن المشكلة الحقيقية، ليست فى تصيُّد أخطاء ثورة هنا، وثورة هناك. ولكن أننا أصبحنا نعيش فى عالم، يريد لنا التكيف، والتأقلم، ومواصلة العيش، دون ذكر كلمة «ثورة». عالم من القرصنة، والعصابات، واللصوص، والقتلة، والإرهابيين، يسفكون الدماء فى وضح النهار، لزيادة الثروات والسيطرة، ثم يتكلمون عن «أخطاء الثورات». عالم يريد أن يضع حركات الشعوب من أجل الحرية، فى متاحف التاريخ. عالم يفضل إلقاء القمح فى البحر، عن إطعام الجوعى فى كل مكان، يرقص على إيقاعات استغاثات وصرخات وآهات الضحايا، ولا يطربه إلا صوت ماكينات السلاح.
من واحة أشعارى:
لم يعد عندى
وقت أقضيه مع الناس
لم يعد عندى
طاقة لاحتمال أخطاء البشر
لم يعد عندى
دافع للحديث عبر الهاتف
لم يعد عندى
فضول لمْن جاء أو حضر







