الخميس 19 يونيو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
كشف المستور!

كشف المستور!


نحن نعيش فى بلاد تقدس قيمة «التستر» على الفساد، و«تغطية» الفضائح، و«التكتم» على المصائب والكوارث، والعورات الفكرية، والثقافية، وأعتقد أن هذا التقديس، مغروز فى الوجدان، من الجذور، ويقاوم بشراسة محاولات التغيير، التى تقتضى عدم الخوف من المكاشفة، وجسارة الاعتراف بالنواقص، والعيوب، والأخطاء.
ودعونا نخوض أكثر، وبشكل أعمق، فى هذا الأمر. إذا سألنا:
«ماذا تطلب من الدنيا؟.. ماذا تطلبين من الدنيا ؟. الجواب النموذجى للغالبية من رجال، ونساء مجتمعاتنا، هى: «لا أطلب شيئًا إلا الستر».
 لكن ماذا يعنى « الستر»؟.
إن الشيء «المستور»، هو الشىء «المحجوب»، «المخفى».. «المستخبى».. لا تراه عين.. ولا تسمعه أذن. الشىء «المستور»، شيء لا يعرف أحدًا عنه شيئًا، نحن نقول «الليل ستّار».. بمعنى أن الليل بظلامه، وعتمته، يخفى «الأسرار».. و«العيوب».. و«الملامح».. و«الحركات». و«كل شىء» يفضحه، ويكشفه، ويظهره، الصبح، أو النهار.. وكلمة «الساتر»، تعنى الحاجب، الذى نستخدمه حتى لا يرانا الآخرون، فى مواقف نعتبرها غير لائقة.
فى مجتمعاتنا، تحتل قيمة «الستر»، مكانة عظمى فى تعامل الناس مع الحياة. إذا سألنا امرأة، أو رجلًا، عن الأحوال، والصحة والشغل، والعيال، والفلوس، قال «مستورة». وفى جميع المواقف، نسمع «استرها يا رب». وأقصى الطموح، والأمنيات، والأحلام، هى، «الستر».. من البداية، وحتى النهاية.
رأيى الشخصى، أن مقولة «لا أطلب إلا الستر»، هى أحد العوائق الأساسية، المعطلة للتقـدم، واقتحام تجارب الحياة دون خوف، والمخاطرة لاكتشاف المجهول، والجديد، والمبتكر.
إن الحضارات تصنع نفسها، ليس بـ«الستر».. ولكن بـ«كشف المستور».
والإبداع الخالد، ذو المكانة العالية فى الشكل والمضمون، ليس الإبداع الذى «يستر» التناقضات، والكذب، والزيف، والقهر، والظلم، لكنه الإبداع، الذى «يفضح» كل هذه الأمور، والأفكار الرائدة التى تبقى فى ذاكرة الشعوب، وعلى صفحات التاريخ، هى التى تثور، وتتمرد، على «الستر» فى السياسة، والأخلاق، والثقافة، والاقتصاد، والموروثات المكبلة للتحرر.
إن البشر، وكذلك المجتمعات، التى لا «تطلب إلا الستر».. تحتوى فى أجسادها على الكثير، والعديد، من الأمراض الحضارية المتوطنة، والأورام الأخلاقية المنتفخة، والدمامل الثقافية المزمنة. ولذلك، فهى تخاف «الكشف».. وترتعب من «الفضح».. ولا شىء، يربكها، ويلخبط كيانها، ويزعج منامها، قدر «الوضوح»، و «الصدق»، و«الفضيحة». إذن «الفضائح»، ليست إلا «الحقيقة الغائبة» التى يفشل الناس فى تجنبها، إن الرجل الذى لديه الكثير من الفساد الأخلاقى،  والخوف من الناس، نجده دائمًا فى حاجة إلى «الستر».. وأفضل أنواع «الستر»، أو التخفى،  التى تضحك على العقول بجدارة، هو «الستر» باسم الأديان.. و«التخفى» باسم شرع ربنا.. أو كلام الله، أو حكمته.
والمرأة أيضًا، التى لديها الكثير، والعديد، من الفساد الأخلاقى،  والخوف من الناس، تحتاج دائمًا، إلى «ستارة» مادية، أو معنوية، لإخفاء ما تخشى كشفه.
والمجتمعات «مجموع رجال ونساء»، كلما زاد فسادها، وازدواجياتها، وتناقضاتها، وكذبها، وظلمها، وقهرها، كلما زاد ميلها إلى «الستر» و«التخفى».. و«التغطية».
إن «الستر»، موقف الضعيف.. الخائف.. العاجز.. الذى يشعر بالإحباط، والدونية، والعبودية.
و«الكشف» أو «الفضح».. موقف القوى.. الشجاع.. القادر، الذى يشعر بالتحقق والتفوق والحرية.
إن القضاء على كل أنواع الفساد الأخلاقى، يستحيل دون التمسك بـ«فضح» مظاهره، وجرائمه، وتورطاته، ولجوئه إلى «التستر».
إن الأفراد، وكذلك المجتمعات، المستقيمة أخلاقيًا، ليست لديها «أسرار»، تستوجب «الستر»، و«التخفى».. إن «الشفافية»، التى نطالب بها، ليست إلا «حربًا» موجهة ضد ثقافة «التستر»، وحضارة « التغطية».
نقول دائمًا: «البداية من أول السطر». وأنا أقول: «البداية من أول الستر».
هناك مقولة صوفية تقول: « اللهم افضحنا لا تسترنا حتى يتبين الغث من الثمين».
أرجع وأقول، أننى فعلًا ليست لى أمنيات خاصة بالتعديلات الدستورية.
شىء واحد فقط، أطلبه، أن يكون الدستور، فى كل نصوصه، ومواده،  وبنوده، وفقراته، يسير فى اتجاه « تبين الغث من الثمين».
 إنجاز حضارى كبير جدًا، وكاف جدًا، أن يساعدنا الدستور، فى  القضاء على قدسية التغطية والإخفاء، وعلى إبادة داء المستور.