
محمد جمال الدين
دم.. الصعيد الرخيص
«ألا يكفى ما تعرضنا له من تشريفة الضرب المعتادة قبل ركوب القطار لإرهابنا وتنفيذ ما يطلب منا دون قيد أو شرط، ومعاملتنا مثل العبيد رغم أننا «ولاد ناس» فما حدث لنا فى هذه التشريفة لايرضى «مسلم أو كافر».. وأخيرا نفاجأ باستشهاد 19 من زملائنا دون أى ذنب ارتكبوه، بالإضافة إلى إصابة أكثر من 107 آخرين، فمن المسئول عن حق هؤلاء الزملاء؟!».
هذا الكلام ليس من عندى وإنما صرح به جنود الأمن المركزى الذين أوقعهم حظهم العثر لركوب القطار المشئوم والذى انفصلت عربته الأخيرة فى البدرشين مؤخرا.
ما تعرض له قطار مجندى الأمن المركزى المقرر ذهابهم إلى معسكر التدريب يعد حادثا مأساويا بكل المقاييس أصاب نصف مصر المتمثل فى جنوبها «الصعيد» المنكوب دائما.. فعلى مقربة من البدرشين التى شهدت الحادث الأخير سبق وإن كان هناك الحادث الأسوأ فى تاريخ مصر والسكك الحديدية الشهير بحادث «قطار الصعيد» فى فبراير 2000 والذى راح ضحيته أكثر من 350 راكبا بعد اشتعال النيران به، وهو ما اضطر المسافرون للقفز من النوافذ، وهو الحادث الذى بسببه استقال الدكتور إبراهيم الدميرى وزير النقل، بالإضافة إلى أن هذا الحادث هو الذى لفت الأنظار للدكتور «محمد مرسى» رئيس الجمهورية الحالى الذى تقدم باستجواب عنه تسبب فى إثارة الرأى العام على حكومة الدكتور عاطف عبيد والرئيس المخلوع مبارك.
لم يكن حادث قطار مجندى الأمن المركزى آخر عهد هذا الإقليم بالحوادث المأساوية التى خطفت الكثير من أبناء مصر، فهناك حوادث أخرى متعددة منها حادث اصطدام القطار القادم من أسيوط فى 17 نوفمبر الماضى عند مزلقان قرية المندرة التابعة لمدينة منفلوط بأتوبيس خاص بمعهد أزهرى أسفر عن وفاة 48 طفلا وطفلة، والذى انتهى أيضا باستقالة رشاد المتينى وزير النقل، بالإضافة إلى استقالة هانى حجاب رئيس هيئة السكة الحديد.
ورغم تكرار حوادث القطارات فى الصعيد إلا أنها لم تلفت نظر المسئولين ولم يتم تداركها والسعى إلى القضاء عليها، بل إنها تزداد يوما بعد آخر، ونظرة ولو عابرة لأغلب المزلقانات على هذا الخط تؤكد أنها ليست سوى مصائد للموت لاعتمادها على العنصر البشرى الذى غالبا ما يكون غير مؤهل ولعدم اعتمادها وتطويرها وفقا للتكنولوجيا الحديثة المعمول بها فى هذا الشأن، كما أن أغلب القطارات التى تعمل على خط الصعيد لا تلقى الصيانة اللازمة أو العناية بها من ناحية النظافة والخدمات، مع الأخذ فى الاعتبار أن العمر الافتراضى لأغلب العربات انتهى منذ زمن.
وإذا كان هذا هو الحال فيما يخص السكة الحديد فى الصعيد فإن حال الطرق لايختلف عنها كثيرا، فحوادث الطرق وخصوصا على الطريق الزراعى لا تعد ولا تحصى لاختراقه مراكز المدن والمحافظات، وكثيرا ما يتم قطع هذا الطريق بسبب حوادث الوفاة لعابرى الطريق.
والغريب أن الدولة عندما فكرت فى إنشاء الطريق الشرقى والغربى للتيسير على المواطنين إلا أنهما يفتقدان إلى الخدمات رغم الجودة المتناهية للطريق الشرقى، أما الطريق الغربى فلا تتعدى الخدمات فيه سوى بعض الأكشاك التابعة للأهالى التى لا تقدم سوى المشروبات وبعض الحلوى، بالإضافة إلى المخدرات التى يتم بيعها بعيدا عن رجال الشرطة ولذلك سمى بطريق الموت.
والأمر نفسه يتكرر مع أتوبيسات الوجه القبلى فهى أيضا تعانى الإهمال وعدم الصيانة والنظافة مثل القطارات وكثيرا ما تتعطل براكبيها دون استكمال رحلتها، لذلك يكون من الظلم لشركة أتوبيسات الوجه القبلى مقارنتها بمثيلتها فى شركات غرب الدلتا وشرقها وسيظلم معها بالطبع الصعيد وأهله الذين ربما لاتعترف بهم الدولة كباقى مواطنى الجمهورية.
كلنا نعرف أن الصعيد من الأقاليم «الطاردة» وهذا ما أثبته علم الاجتماع لقلة الرزق به، وكذلك محدودية الأراضى الزراعية والخدمات، إلا أن ذلك لم يلفت أيضا انتباه المسئولين عن الدولة، وحتى عندما فكروا فى إقامة مدن صناعية بالصعيد أسوة بمدن مثل العاشر من رمضان و6 أكتوبر إلا أن المستثمرين هجروها لانعدام المرافق والخدمات بهذه المدن وعدم جاهزيتها بالقدر الكافى الذى يجعل من هذه المدن منتجة وتستطيع أن تجذب عددا كبيرا من المواطنين للعمل بها بدلا من هجرتهم إلى القاهرة والإسكندرية بحثا عن الرزق، ويكفى أن أغلب العاملين فى مجمع الألومنيوم بنجع حمادى من خارج الصعيد مما يؤكد أن يد الإهمال التى عانى منها الصعيد قديما مازالت مستمرة وفى جميع المجالات سواء كان ذلك اجتماعيا واقتصاديا وصحيا وتعليميا ورياضيا أيضا، فمازال الصعيد منسيا ويعانى ولايلتفت له أحد، ونتيجة لذلك كان حادث القطار الأخير الذى راح ضحيته شباب من خيرة شباب مصر ولا يمكن أن يتم تعويضهم بأى مبلغ مالى.
حادث قطار الصعيد أثبت بما لا يدع هناك أدنى مجال للشك أن يد الإهمال طالت جميع مرافق مصر بما فيها مرفق السكة الحديد الذى بدوره نال من الصعيد وأهله الذين يتم التعامل معهم عن طريق المسكنات التى تخفف من الألم دون أن تداويه وهذا ما نحذر منه.
الصعيد يحتاج إلى اهتمام حقيقى يساعد فى نمو هذا الجزء الغالى من أرض الوطن، حتى لا نفاجأ بمن يخرج منه لينادى باستقلاله لإحساسه بالغربة فى وطنه بدلا من الذهاب إلى القاهرة للبحث عن الرزق والعلاج.
وأخيرا يا مسئولى مصر ارحموا الصعيد وأهله فهم مصريون مثلنا ومثلكم.