العالم السرى للآثار الغارقة!
عندما غرقت السفينة الأسطورية «تيتانيك» فى عام 1912م، وعلى متنها حوالى 2224 راكبًا، واستقرت فى قاع المحيط على مسافة تبلغ أربعة كيلومترات، ظن بعض الناس فى العالم أن هذه أول سفينة تغرق بهذه الضخامة فى مياه المحيطات أو البحار، لكن الحقيقة غير ذلك تمامًا.
فقد غرقت من قبل سفن بحرية عديدة، ومن عصور أقدم، فعلى سبيل المثال غرقت إحدى السفن الكنعانية فى حوالى عام 1300 ق.م.، أى ترجع إلى ما يطلق عليه مؤرخو الشرق الأدنى القديم «عصر البرونز المتأخر». وكانت تحوى العديد من الكنوز الأثرية من الذهب والفضة والأبنوس وعاج الأفيال وأفراس النهر، فى منطقة «أولوبورون» فى جنوب غرب تركيا، ونجح غواصو معهد الآثار البحرية من خلال 22500 غطسة منفردة، فى رفع عشرين طنًا من آثار هذه السفينة الغارقة فى أعماق تصل من 44 إلى 61 مترًا، أثناء أصياف الأعوام 1984 1994-م.
وكان أبو الآثار البحرية «جورج باص» قد قام بتجربة مماثلة فى عام 1960م، عندما كشف عن سفينة غارقة تعود إلى عصر البرونز المتأخر فى تركيا أيضًا، وكانت قد غرقت حوالى عام 1200 ق.م. فى «كاب جلدونيا» شرق منطقة «أولوبورون»، وكانت أول أقدم سفينة تكشف كلية فى قاع البحر الأبيض المتوسط. وعثروا على أشياء عديدة تفيد الدراسات الهوميرية «نسبة إلى شاعر الأغريق الأعظم هوميروس»، وعلماء المصريات «إذ عثر على أول جعران ذهبى يصور ملكة مصر الشهيرة الجميلة «نفرتيتى»، زوجة الملك الفيلسوف «أخناتون» العظيم»، ودارسى تاريخ الموسيقى والتكنولوجيا، وتاريخ الفن، وتاريخ الكتابة، وتاريخ الاقتصاديات.
عندما قام «جورج باص» بهذا الاكتشاف المهم، كان طالبًا لا يزال يخطو خطواته الأولى نحو تأسيس «علم الآثار البحرية»، أو ما يعرف بـ «آثار تحت الماء» الذى كرّس له حياته، وأصبح المؤسس الأول له، وأسّس «معهد الآثار البحرية» فى ولاية تكساس فى الولايات المتحدة الأمريكية.
وبالرجوع إلى الحديث عن السفينة الكنعانية الغارقة فى منطقة «أولوبورون» التى أنقذها «جورج باص» وفريقه فى الفترة من 1984 -1994م، نجد أنها كانت تحمل العديد من التجار والمسافرين بتجاراتهم المتنوعة على ظهرها. وتشير آثارها المكتشفة إلى أنها ذات أصول شرقية. واحتوت السفينة على العديد من المراسى الحديدية ذات الأصول الشرقية أيضًا، والمناضد الخشبية للكتابة كالموصوفة فى نصوص الشرق الأدنى القديم، وعلى تمثال كنعانى من البرونز لسيدة، تم طلاؤه بالذهب، قد يمثل الإلهة الحامية للسفينة.
وأظهرت هذه السفينة حجم شبكة العلاقات التجارية الضخمة التى كان عليها حال الشرق الأدنى القديم فى هذه الفترة. ويتضح هذا بوضوح من خلال الآثار المكتشفة؛ فقد عثر على مواد تجارية كثيرة من منتجات أفريقيا الاستوائية، وخرز الكهرمان القادم من شمال أوروبا، والبرونز الإيطالى، ورأس مقمعة حجرية من ساحل البحر الأحمر لرومانيا، والختم الاسطوانى المنحوت فى العراق القديم، وجعارين تذكارية من مصر، وفخار ونحاس من قبرص، وسيراميك وخرز وأختام من اليونان، وقصدير من أفغانستان، وأدوات فخارية وأختام وأسلحة من الساحل السوري- الفلسطينى، ومعظم هذه الآثار فى حال جيدة من الحفظ.
وهكذا قام الرائد «جورج باص» بتأسيس «علم الآثار البحرية» الذى ظل يحلم ويعمل به طيلة حياته المديدة. واستمرت المدارس من بعده فى فتح الآفاق نحو العثور على العديد من الآثار الغارقة والسفن التى غابت فى جوف المحيطات والبحار الصاخبة والهادئة على السواء منذ زمن بعيد. وكان اكتشاف واسترجاع آثار السفينة الكنعانية التى غرقت فى منطقة «أولوبورون» منذ عام 1300 ق.م. هو الدافع الأساسى نحو البحث عن هذه الآثار الغارقة. ومن هنا تجيء أهمية «باص»؛ باعتباره الأول على رأس قائمة طويلة عريضة من علماء الكشف عن الآثار الغارقة التى أُنقذت فى القرن العشرين من مياه المحيطات والبحار بأنواعها.
عظام بشرية تكشف أسرار حضارات أمريكا المدهشة!
يعد البحث والتنقيب عن بقايا سكان أمريكا الأوائل من الموضوعات المثيرة للاهتمام والجدال. ففى بداية عام 1990، وُجدت لقية أثرية فريدة بالقرب من «نيومكسيكو»، وأضافت حوالى 7000 عام إلى تاريخ الإنسان فى العالم الجديد. إنها قصة رعاة البقر العزل الذين وُلدوا عبيدًا. وبدأت أحداث قصتنا فى «ردهورس أريو»، بالقرب من شمال شرق «نيومكسيكو»، فى بلدة «فولسوم»، وتحديدًا فى شهر أغسطس عام 1908م، حينما لاحظ «جورج ماك جونكين» وجود كومة من العظام على ضفة «أوريو». ولما تقصى فى البحث، وجد حفرة مصنوعة بمهارة فائقة، وبها مجموعة من الأدوات الحجرية المصنوعة من الظران «الزلط»، ومنفذة بدقة متناهية، وكان الإنسان القديم يستخدمها فى هذا العصر لقتل وصيد الحيوانات المفترسة والأليفة، دفاعًا عن نفسه وجلبه لطعامه. ولم يستطع «جورج ماك جونكين» لفت أنظار الآخرين إلى أهمية العظام القديمة التى عُثر عليها. فاهتم بها «كارل شافاخايهم» الذى زار الموقع، وجمع العظام فى عام 1922م. وفى عام 1926م، ذهب إلى مدينة «دنفر» وعرضها على «جس فجنس»، مدير متحف «كولورادو» للتاريخ الطبيعى. ومنذ ذلك التاريخ، توالت الاكتشافات الأثرية فى العالم الجديد، وأوضحت «تاريخ ما قبل التاريخ» فى هذه المنطقة من العالم التى كانت مجهولة من قبل، ولم يكن العلماء يعتقدون فى وجود حضارات فى هذه المنطقة من العالم الجديد التى كان سكانها الأصليون من الهنود الحمر، وتعبر عن الحضارات داخل الأرض الأمريكية بأقسامها الثلاثة: أمريكا الشمالية، وأمريكا الوسطى، وأمريكا الجنوبية أو اللاتينية.
وعرفنا أشياء كثيرة عن حضارة «الصحراء» وآثارها الموجودة فى نيفادا وأريزونا، وحضارة «فولسوم» وآثارها فى تكساس وكلورادو ونيومكسيكو، وحضارة «كلوفس» وآثارها فى نيو مكسيكو وكلورادو وأريزونا وأوكلاهوما. ثم تعد الأمر ذلك وامتد البحث إلى حضارت أمريكا الجنوبية، وأزاحت تلك الكشوف الستار عن حضارات بالغة الروعة لم يكن من المتخيل وجودها مثل المايا، والإنكا، والأزتيك، وصناع السلال وغيرها. وكانت هذه العظام القديمة البسيطة هى السبب الرئيسى فى العثور على هذه الحضارات التى فتح الطريق إليها «كريستوفر كولومبسو» بدخوله الأرض الأمريكية عام 1493م، واكتشاف العالم الجديد آنذاك.
عاش «أوتسى» فى نهر الجليد 5000 سنة متواصلة!
عندما عثر منذ عدة سنوات مضت على جثة قديمة محنطة، ترجع إلى قبل خمسة آلاف عام، فى نهر جليدى فى جبال الألب على الحدود الإيطالية- النمساوية، تغير مفهومنا عن أسلافنا تمامًا. فلم يعد العصر الحجرى القديم المتأخر، مجرد حفائر ومكتشفات فقط، بل أعطى إنسان الجليد هذا العصر وجهًا جديدًا ودهشة ممزوجة بالحلم والمتعة.
وتبدأ أحداث قصته التراجيدية بموت ذلك الإنسان متجمدًا فى العراء وحيدًا، ثم تكاثرت عليه الثلوج إلى أن أخفت جثته عن أعين وأنوف آكلى الجيف. وساهم الجليد البارد فى الحفاظ على جثته، ثم جاء صيف شديد الدفء بعد أن غاب فترة طويلة تقدر بخمسة آلاف عام، فتم اكتشاف رجل الجليد «أوتسى»، وأعاد باكتشافه الحياة إلى الأوروبيين القدماء. وقد اكتشفه اثنان من السياح الألمان فى يوم 19 سبتمبر عام 1991م، فى طبقة متجمدة يبلغ ارتفاعها 3210 سم على الحدود بين النمسا وإيطاليا -كما سلف الذكر- فى المقاطعة المستقلة «بولزانو» «جنوب تيرول». ولم يُحفظ الجسد فحسب، بل حفظت أدواته وأسلحته وملابسه كاملة، والتى تكون نادرة البقاء عادة؛ ليختبرها الأثريون. وجاءت تسميته بـ«أوتسى» نسبة إلى وادى «أوتس» الذى عُثر عليه فيه.
ظن البعض عندما عُثر عليه فى البداية، أنه واحد من متسلقى الجبال العديدين الذين اختفوا فى جبال الألب فى العقود القليلة الماضية، وقد أحدث اكتشافه صدمة لدى البوليس النمساوى وأهل الجبال المتسلقين؛ لأنهم غير متخصصين فى الآثار، ولم يخطر ذلك على بالهم مطلقًا. ولقد عانت الجثة بعض الشيء قبل أن تحدد طبيعتها الأثرية وتأخذ طريقها إلى معامل البحث والدراسة العلمية الجديدة.
وعلى الفور، حُرر «أوتسى» من الجليد المتراكم عليه، وحُفظ فى مخزن بارد يلائم طبيعة البيئة التى جاء منها، وهكذا واجه العلم الحديث بكل سلطانه الكبير. واختُبر، وقيس، ووُجدت طبقة من الغبار على ملابسه. وأُرخت خمسة تقارير خاصة بمعامل تأريخ راديو-كربون المتطورة، وفاة «أوتسى» بين 5535 5100- عام قبل الآن.
كان طول رجل الجليد فى حياته حوالى 160.5 سم، وعاش ما بين 40-45 عامًا من ناحية العمر. وحمل جسده عددًا من الأوشام فى شكل خطين متوازيين حول الرسغ الأيسر، أو على هيئة خطوط طولية أو متقاطعة على كل من جانبى منطقة العمود الفقرى، والركبة اليمنى، وربلتى الساقين، ورسغى القدمين. ولم تكن هذه الأوشام وسيلة سحرية أو لروابط من نوع ما، فقد أوضحت أشعة «X» أنه كان هناك التهاب فى المفاصل والعظام، ويثبت هذا أنها كانت وسيلة علاجية على نحو من الأنحاء.
لعل الكنز الحقيقى الذى عُثر عليه علاوة على ما تقدم، هو ملابس هذا الإنسان وطبقة الغبار التى تعلوها. ويبدو أن «أوتسى» كان إنسانًا متآلفًا مع حياة الجبال ومعدًا إعدادًا جيدًا للتعامل معها. وتتكون ملابسه من رداء من الحشائش مما يجلب له أكبر قدر من الدفء والراحة فى الحركة. وحذاؤه مدهش للغاية: فهو ضد الماء ويصده، وواسع تمامًا وطويل، وصُمم بحيث يتناسب مع المشى فى الثلوج. وصنع نعلاه من فرو الدب، أما الأجزاء العليا فصُنعت من جلد الغزال، ووُجدت حشائش ناعمة حول القدمين وفى الحذاء، وشُكلت لتشبه الجوارب فى عصرنا الحالى، وكان الهدف من ورائها هو تدفئة قدميه وساقيه، وكان يحيط جسمه بشبكة مصنوعة من لحاء الأشجار.
ومن خلال دراسته وأسلحته، وأدواته، ومخزونه من الأدوات البديلة، اتضح أنها سمحت له بالبقاء فى قريته الأصلية دون الحاجة إلى إمدادات إضافية منتظمة. وقد وُجدت معه فأس لها نصل نحاسى، وخنجر ظرانى له جراب مصنوع من الألياف النباتية. وأوضحت البقايا النباتية التى عُثر عليها فى أدواته، وملابسه، وأسلحته، أنه عاش فى تجمع سكانى حصد لتوه محصول القمح فى وقت قصير قبل أن توافيه المنية مباشرة.
وكانت أدواته فقيرة من ناحية الشكل، ومنها قوسان بسهمين، و12 سهمًا غير جيد الصنع. ويبدو أنه غادر المكان مضطرًا، تحت ضغط ما، دون أن يأخذ معه كل أدواته، وهرب متخذًا طريقه فوق سلسلة جبال الألب الرئيسية. وفشل فى الهرب؛ فأعطته وفاة خلودًا أبديًا مضاعفًا لم يُمنح لأحد من أفراد قريته الكثيرين. وأصبح خير سفير للماضى، وألقى الضوء على أحد أسلاف البشرية العظام، وغير نظرتنا تمامًا عن أهل عصور ما قبل التاريخ. ويحوى متحف «بولزانو» فى إيطاليا نموذجًا متخيلًا لذلك الإنسان، فيما بقيت جثته محل دراسة العلماء المختصين إلى الآن.
* مدير متحف الآثار-مكتبة الإسكندرية