الجمعة 11 أبريل 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
لغز «الأصول الأدبية» للتـوراة

لغز «الأصول الأدبية» للتـوراة


نجح السير «ليونارد وولى» فى الكشف عن مدينة «أور» السومرية القديمة فى العراق، التى تعد الموطن الأصلى لأحد آباء التوراة المؤسسين وأعنى أبا الأنبياء سيدنا «إبراهيم الخليل» عليه السلام وفقًا لما أشار إليه «سفر التكوين :11»، وقد ألهب هذا الكشف خيال الجميع رغم الاكتشافات الأخرى التى تمت فى المائة والخمسين عامًا الماضية فى حقل الآثار فى هذه المنطقة الفريدة من العالم بآثارها خصوصًا الدينية منها والتى تعد أيضًا مهد الحضارات البشرية قاطبة.

وعلى مدار أكثر من 12 موسمًا من الحفائر المتصلة، ما بين الأعوام 1922 - 1934، طيرت صحف العالم مقالات لا تعد ولا تحصى حول اكتشاف «وولى» فى العراق. ووصفته الجريدة «لندن المصورة» -عين إنجلترا على العالم آنذاك - فيما لا يقل عن ثلاثين مقالة مصورة فى صدر - صفحاتها الرئيسية. وجاء هذا الكشف ليؤكد أسبقية الشرق فى إرساء مذاهب ومدارس علم الجمال وتأسيس حضارات عظيمة الثراء، وكشفت أطلال هذه المدينة عن روعة ذلك الشرق الساحر، واكتملت أهمية حفائر «وولى» بالعثور على مقبرة الفرعون الذهبى الأشهر «توت عنخ آمون» فى مصر.
وكان قد اختبر موقع هذا الاكتشاف المهم من قبل، نائب القنصل البريطانى فى البصرة المدعو «جون تايلور» بين العامين 1853 - 1854م. ورغم أنه لم ينجح تمامًا فى العثور على آثار هذه المدينة كاملة، فقد نجح بعض الشىء فى العثور على الألواح الطينية المنقوشة بالكتابة المسمارية، التى أشارت إلى مدينة «أور» على أنها «أور الكلدانيين» المذكورة فى سفر التكوين فى التوراة.
جرت أحداث سياسية عالمية، كان من أفدح آثارها إغلاق الموقع الأثرى فى وجه أعمال الحفائر، إلى أن وقع فى قبضة البريطانيين فى الحرب العالمية الأولى. فتم تأخير الحفائر إلى عام 1922م، عندما وافق المتحف البريطانى فى لندن ومتحف جامعة بنسلفانيا الأمريكية على إرسال بعثة حفائر مشتركة. وتولى إدارة الحفائر «ليونارد وولى» الذى كان أثريًا وضابطًا ذكيًا للغاية قضى سنتين فى السجن كسجين حرب!
جاءت بداية الحفائر بسيطة ولم تلفت إليها الأنظار إلى أن جاء موسم 1926-1927م، حيث عثر على 600 مقبرة، ثم توالت الاكتشافات المذهلة بسرعة كبيرة فاقت الخيال وكل تصور.
وانتاب «وولى» وفريقه شعور فياض بالدهشة عندما أخذ الذهب يخرج من الأرض تحت ضربات معاولهم، وعندما ظهرت إلى الوجود المعجزات الفنية الواحدة تلو الأخرى. وعثر «وولى» على عدد كبير من المقابر، قدر بأكثر من 2000 مقبرة ترجع إلى الألف الثالث قبل الميلاد، وكان بعضها على قدر كبير من الثراء، مما دفع «وولى» إلى الاعتقاد بأن جميعها مقابر ملكية، رغم أن معظم المقابر قد سرقت، فقد عثر على مقبرة كاملة رائعة تخص السيدة «بو- آبا» ترجع إلى الفترة التى اصطلح الأثريون على تسميتها بـ«عصر الأسرات المبكر» (2600-2500 ق.م)، عندما كانت «أور» من «دويلات المدن» المستقلة على السهل الفيضى الجنوبى لنهر الفرات.
واحتوت المقابر آثارًا فى غاية الفرادة والروعة مثل القيثارات ذات الزخارف الذهبية، والأوانى والحلى المصنوع من الذهب والفضة والأحجار الكريمة، والأسلحة التى كانت ترافق الموتى فى رحلتهم فى العالم الآخر والأوعية والخناجر الذهبية، والتماثيل الذهبية المطعمة باللازورد لـ«الكبش المصيد فى الأجمة» – الذى حاول «وولى» تفسيره تفسيرات دينية توراتية، حين وصفه بأنه يشبه الذى جاء فى «سفر التكوين 13:22» على أنه «كبش يعلق بشجرة» – ورءوس الحيوانات المصنوعة من الذهب والفضة التى زينت القيثارات الموسيقية، ووشاح الرأس الذهبى الخاص بالسيدة «بو- آبا»، وفوق كل هذا الخوذة الذهبية الرائعة الخاصة بالسيدة «مس- كلام- دوك»، كذلك المواكب الجنائزية الغريبة التى ضمت الموسيقيين مع قيثاراتهم، والجنود بكامل أسلحتهم، وحاشية نساء القصر بملابسهم البهية، كل بمحض إرادته فى اتجاه حفر الموت الأعظم، حيث يتعاطون السم الزعاف حتى الموت ليدفنوا فى صحبة سيدهم بعد وفاته مباشرة ليخدموه فى العالم الآخر فى ما يعرف بعادة «التضحية البشرية» فى المجتمعات القديمة.
أسرار التوراة المقدسة فى جوف الصحراء القاحلة!
لقد اعتادت «لفائف البحر الميت» كتابة التاريخ فى عهد السيد المسيح عليه السلام، وغيرت الرؤية إلى التوراة والدراسات التوراتية عمومًا، وقادت الباحثين إلى فهم جديد للتاريخ والآثار والدين. وتوضح هذه اللفائف التى تحتوى على أقدم المخطوطات المهمة للتوراة العبرية، حقيقة بزوغ اليهودية والمسيحية كديانات قوية.
فى ربيع عام 1947م، وفى كهف قريب من البحر الميت، عثر الصبى محمد الديب، أحد رعاة الأغنام من البدو، على مجموعة من الجرار تحتوى على لفائف مخطوطات قديمة. وقد أدى العثور على هذه المخطوطات إلى سجال علمى استمر ما يقرب من نصف قرن، وأصبحت مثار اهتمام القراء ووسائل الإعلام فى كل مكان من العالم. وعثر البدو على المجموعة الأولى من مخطوطات البحر الميت وقدرت بسبع مخطوطات. واتضح معنى هذه المخطوطات وأهميتها بعد عام أو يزيد من العثور عليها. وبيعت إلى تاجر عاديات فى «بيت لحم» يُدعى «كاندو»، فباع منها ثلاثة إلى الجامعة العبرية فى القدس، والأربعة الأخرى إلى المار «أثاناسيوس صموئيل»، رئيس دير «سانت مارك» للكاثوليك السوريين، فباعها الأخير بدوره فى الولايات المتحدة الأمريكية.
انتهى المطاف بهذه اللفائف فى المدارس الأمريكية للدراسات الشرقية. وأخذ اهتمام الدارسين الأمريكيين والأوروبيين يتزايد بها. وعثر الدارسون بين هذه المخطوطات على نسخة من «سفر أشعيا» التوراتى أقدم من النسخة العبرية الأصلية. وساهم هذا الاكتشاف فى خلق صرعة فى وسائل الإعلام وجذب انتباه معظم الباحثين فى العالم أجمع.
وانتشرت حمى البحث عن مثل هذه المخطوطات بين البدو وتجار العاديات. واحتوت المخطوطات التى وجدت أجزاء من نصوص كل كتاب من التوراة العبرية على الأقل. ويرجع تاريخها إلى ما بين عام 200 ق.م. وعام 68 م، وتخص طائفة «العيسويين»، نسبة إلى سيدنا عيسى عليه السلام. وهى طائفة إسرائيلية متشددة فى رعاية الأحكام الدينية، وتنتظر الخلاص القريب بظهور المسيح الموعود. وهى أقرب الطوائف الإسرائيلية إلى التطهر من أدران المطامع والشهوات. وقد جعلوا تعاليم الأنبياء جزءًا مهمًا من اعتقاداتهم. وعندما أدى هذا العصيان إلى محاربة الكهنة الرسميين لهم، تركوا المدن الكبيرة وخرجوا للحياة بعيدًا فى البرية والمدن الصغيرة. وأصبحوا يمارسون عباداتهم سرًا حتى لا يبطش بهم الكهنة. وإن كانوا يعتبرون يهودًا، فقد كانوا مختلفين عن باقى اليهود فى كونهم يؤمنون بخلود الروح والحساب فى الآخرة، ولا يشتركون فى تقديم الذبائح فى المعبد، ولم يزد عددهم على أربعة آلاف فرد عند بداية التاريخ الميلادى.
وأصر البعض على أن هذه المخطوطات سوف تبرهن على وجود وألوهية السيد المسيح، فيما اعتقد البعض الآخر أنها احتوت سرًا مدمرًا للمسيحية على اعتبار محتوياتها الحقيقية تشير بوضوح إلى روح القمع. وتشمل المخطوطات نحو 800 نص، منها نحو 200 نص من التوراة العبرية، أغنت الفهم عن الديانة اليهودية المبكرة، والأصول الأدبية للتوراة، والتبشير بميلاد المسيحية. وتمت كتابة معظم المخطوطات على الرق، والقليل منها على البردى، وواحدة فقط على رقائق نحاسية. وبالإضافة إلى النصوص التوراتية، ضمت تعليقات غير معروفة على التوراة، والأشكال الأخيرة للعهد القديم التوراتى، وقوائم الطقوس والقواعد، والنصائح أو التعاليم الخاصة بـ«سفر الرؤيا» وقائمة من الكنوز الدفينة. ومعظمها كتبت بالعبرية، والقليل بالآرامية أو الإغريقية.
وتثير لغة ومحتويات هذه المخطوطات بعض الشك فى كون كتاّبها من اليهود. ويوضح بعض الوثائق أن مجتمعهم كان معارضًا نشطًا فى مواجهة كهانة يهودية مسيطرة. رغم أن هذه المخطوطات أخذت عقودًا من الدراسة، وطبع معظمها فى شكل ما من الأشكال، فإنها لا تزال تمثل التحدى الأكبر أمام الأجيال الجديدة القادمة لتكشف سرها وتميط اللثام عن معلومات كثيرة مجهولة فى تاريخ اليهودية والتبشير بالمسيحية فى عصرها الأول، خصوصًا أنها لم تنشر كلها، فقد أخفت إسرائيل كثيرًا منها لغرض ما فى نفس يعقوب، وادعت فى تمثيلية ساذجة وفجة أنها أخرجت كل ما لديها من هذه الوثائق النادرة التى لا تخصها وحدها، وإنما تخص العالم أجمع، ومن حقه أن يعرف أسرار هذه الطائفة اليهودية المنشقة عن الديانة اليهودية الرسمية السائدة آنذاك.
وسوف يبقى اسم «أور» مرتبطًا عند علماء الآثار، بشكل خاص، وإلى الأبد، بـ«الزقورات»، أو الأبراج المدرجة التى أقيمت فى «أور»، وبقيت إلى الآن من أكثر النصب والمعالم المثيرة للدهشة والإعجاب المزدوجين. وأضافت هذه الاكتشافات العظيمة فصلاً جديدًا فى تاريخ العراق القديم، وأوضحت حجم العلاقات التجارية الكبيرة التى تمتعت بها مدينة «أور» العراقية القديمة الشهيرة.
ولا يمكن للذاكرة أن تنسى هذه المدينة الفريدة من نوعها. وسوف تبقى قصة اكتشافات «ليونارد وولى» لهذه المدينة، قصة جديرة بالبقاء ومصدر فخر وسعادة للعلماء فى العالم كله، لسنوات طوال قادمة، وإن كان «وولى» قد أخذ مكافأته بالعثور على الجبانة الملكية الفخمة فى «أور»، فإن أسرار هذه المدينة لم تعلن عن نفسها كلية، فهى إنجاز حضارى متواصل العطاء لم تُسبر أغواره بعد.

* مدير متحف الآثار-مكتبة الإسكندرية