لُقْيَة الفرعون الذهبى!
إذا نظرنا إلى القرن العشرين نظرة فاحصة، لوجدنا أنه أعظم القرون قاطبة فى تاريخ البشرية من ناحية الاكتشافات الأثرية، ففيه باحت الأرض بأسرارها وحدَّثت أخبارها، وأخرجت لنا العديد من الروائع الأثرية المدهشة والتى لم نكن نعرف عنها شيئًا من قبل. ونتج كل هذا بفضل التقدم العلمى المذهل وتطور علم الحفائر والبحث والتنقيب عن الآثار واستقلال منهجه عن العلوم الأخرى، وتفرغ رجال بحث ذوو مستوى رفيع كرسوا حياتهم لشىء واحد فقط هو البحث والتنقيب عن الآثار المفقودة والمدفونة تحت باطن الأرض.
فى بحثهم هذا، اللذة والمتعة اللتان لا يعادلهما أى شىء آخر فضلاً عن أنهم ببحثهم عن الماضى لا يبحثون عن الماضى فحسب، بل إنهم يبحثون عن الإنسان وعن أسلافه الأقدمين، وبالتالى عن أنفسهم وعن تاريخهم القديم وأصولهم المنصرمة، وإمكانية تتبع كيفية كينونته ومعيشته ورصد التطور التقنى والحياتى إلى وقتنا الراهن.
وأوضح لنا هذا القرن الفريد كيفية انتقال أسلافنا الأقدمين من «حياة الكهف» ومن بشر متوحشين إلى فنانين عظام صنعوا وأبدعوا رسومًا أقل ما تُوصف به أنها بالغة الروعة، وتشهد على ذلك جدران كهوف فرنسا. وهو أيضًا الزمن الذى تعمقت فيه معرفتنا بجذور البشرية بشكل يثير الدهشة ولم يسبق لنا معرفة مثيله فى عمق التربة الإفريقية العريقة.
وأجاب هذا القرن عن تساؤلات عديدة كانت تشغل أذهاننا لفترة طويلة من الزمن. وفى عقوده الأولى وفى العقد الثانى منه تحديدًا، اُكتشفت مقبرة الفرعون الذهبى الأشهر الملك «توت عنخ آمون». واتضح أمامنا كوضوح الشمس فى كبد السماء كيف كانت ثروة الفرعون فى مصر القديمة، وكيف كان الجمال متجسدًا فى آثار مصر القديمة.
هذه آثار ملك لم يحكم طويلاً ومات صغيرًا فى أوائل القرن الرابع عشر قبل الميلاد وهو لا يزال بعد فى التاسعة عشرة من عمره القصير جدًا، فما بالنا بآثار ملوك عظماء أمثال «تحتمس الثالث» و«أمنحتب الثالث» و«إخناتون» و«سيتى الأول» و«رمسيس الثانى» العظام وغيرهم. وساهم هذا الاكتشاف فى تزايد حمى «الإيجيبتومانيا» أو «الولع بمصر» أو «الهوس بمصر» فى جميع أنحاء العالم، وخصوصًا فى فرنسا، بل وفى تعلق الغرب بالشرق وسحره بشكل يثير الإعجاب، على اعتبار الشرق هو الملهم وصاحب العديد من الرؤى السحرية التى يفتقدها فى الغالب الغرب العقلانى.
وفى هذه المائة عام الأخيرة التى تشكل صلب هذا القرن المنصرم، تغيرت معارفنا تمامًا بأهل الماضى الذين صاغوا ماضينا التليد، وكنا نعدهم أقل تقدمنا مما كنا نتخيل. فقد اكتشفت حضارات عديدة ومقابر فريدة، وأشياء رائعة جدًا عن أسلاف البشرية الأوائل.
وفى مارس من عام 1900، نجح الإنجليزى السير «آرثر إيفانس» فى العثور على مدينة «كنوسوس» فى جزيرة كريت، عاصمة الحضارة المينوية، وحل لغز الحضارة الإغريقية المفقودة التى بحث عنها طويلاً. وفى عقد العشرينيات بين 1920-1930، اكتشف الإنجليزى السير «ليونارد وولى« مدينة «أور» السومرية الشهيرة فى العراق القديم. واستطاع بعثها من الماضى على نحو جديد مضيفا صفحة مشرقة جديدة فى تاريخ العراق القديم شديد الروعة والدهشة.
أسهم اكتشاف مقبرة الفرعون الذهبى الصغير الملك «توت عنخ آمون» على يد الإنجليزى «هوارد كارتر» فى ازدياد والتهاب الحماس والتوجه إلى الشرق، خصوصًا أنها اُكتشفت فى توقيت متزامن عام 1922 مع اكتشاف «وولى» لمدينة «أور». وفى أثناء الثلاثينيات، نجح الأثرى الإنجليزى الشاب «جراهام كلارك» فى العثور على عظام وأدوات حجرية فى بحيرة جليدية فى منطقة «ستار كار» فى شمال شرق إنجلترا. وأرجع هذه الآثار المكتشفة إلى العصر الحجرى معطيًا إياها تأريخًا يرجع إلى حوالى عشرة آلاف عام قبل الآن. ثم كانت المفاجأة الكبرى التى فجرها لويس ليكى وزوجته مارى ليكى عام 1955م بالعثور على بقايا إنسان «أوسترالوبيثكوس» (الإنسان الأول المبكر) فى أخدود «أولدفاى» فى شمال تترانيا فى إفريقيا. وأرخت هذه البقايا بـ 1.750.000 سنة مضت.
ويحفل القرن العشرون بأسماء العديد من الأثريين والعلماء الذين صنعوا مجده وبهاءه العلمى عبر إنجازاتهم واكتشافاتهم الفريدة. وإضافة إلى ماذكرنا، نذكر جورج باص «أبو الآثار البحرية»، ودونالد جوهانسون، وموتيمر وليلر، ولويس بنفورد، ووليام فلندرز بترى، صاحب الاكتشافات الكبيرة فى مصر ومحيطنا العربى و«أبو المدرسة الحديثة فى علم المصريات»، وويلارد ليبى. وحققوا هؤلاء نجاحات هائلة فى حقل الآثار. ونظرًا لكثرة الاكتشافات والمكتشفين، فإننا سوف نذكر أهم هذه الاكتشافات التى غيرت مجرى تاريخ البشرية منذ لحظة اكتشافها على سبيل المراجعة وإلقاء الضوء عليها بعد أن فارقنا القرون العشرين.
اكتشاف مقبرة «توت عنخ آمون»
فى الرابع من شهر نوفمبر عام 1922، كان الإنجليزى «هوارد كارتر» على موعد مع الرمال المصرية لتمن عليه وتكشف له عن واحد من أهم أسرارها الدفينة. لقد استطاع أن يحقق حلم حياته بعد طول عناء وتعب بالكشف عن مقبرة الفرعون الذهبى الأشهر الملك «توت عنخ آمون»، ذلك الأثر الفريد من نوعه الذى أذهل العالم كله منذ وقت اكتشافه إلى هذه اللحظة، والذى طغى على كل الاكتشافات الأثرية الأخرى فى العالم أجمع، وأصبح أهم اكتشاف أثرى بحق فى القرن العشرين دون أدنى مبالغة.
وانطلقت أسطورة الملك «توت» تغزو أرجاء العالم كله، وأصبح الفرعون الشاب الذى لم يجلس على العرش أكثر من تسع سنوات، بين عشية وضحاها، أشهر ملك فى تاريخ الإنسانية وكتب لاسمه الخلود.
ولقد ثبت من دراسة مقتنيات مقبرة الملك «توت» التى أبهرت العالم أجمع أنها لم تكن تخصه وحده، بل كان أغلبها من مقتنيات أسلافه الملوك: والده «إخناتون» العظيم، والملك «سمنخ كارع»، والملك «آى». وتم تجميعها على عجل لإتمام مراسم دفن الملك الشاب الذى مات بالملاريا إثر سقوطه من فوق عربته الحربية فى صحراء الجيزة. ولقد ألهبت هذه المقتنيات والطريقة التى اكتُشفت بها خيال الباحثين والمولعين بالآثار وأساطيرها على السواء، فنسجوا العديد من القصص والحكايات حول حياة الملك ووفاته ومن هنا نشأت أسطورة «توت» بل ما يُعرف خطًأ بـ«لعنة الملك توت عنخ آمون».
وتعتبر مقبرة الملك «توت عنخ آمون» هى المقبرة الملكية الوحيدة التى وصلت إلى أيدينا كاملة إلى الآن. فبعد وفاة الملك «توت» بمائتى عام، قام عمال مقبرة الملك «رمسيس السادس»، من ملوك الأسرة العشرين، دون قصد، برمى الأحجار والرمال المستخرجة من حفر مقبرته فوق مدخل مقبرة «توت عنخ آمون»، بل شيدوا أكواخهم فوق هذا الرديم. ولولا هذه المصادفة العجيبة لما نجحت مقبرة الفرعون الشاب من أيدى لصوص المقابر من كل زمان، ولما وجدها «كارتر» فى صبيحة الرابع من نوفمبر عام 1922 بعد بحث مضنٍ دام خمس سنوات طوال.
وتبدأ القصة فى عام 1917م، عندما حصل اللورد «هربرت إيرل كارنافون الخامس» (1866- 1923م) على موافقة مصلحة الآثار المصرية على التنقيب فى وادى الملوك. وكان حلم «هوارد كارتر» (1873- 1939م) هو العثور على مقبرة الفرعون الصغير «توت عنخ آمون» بين مقابر وادى الملوك. فطلب اللورد «كارنافون» من «كارتر» أن يجرى الحفائر لحسابه فى الوادى. وكان «كارتر» يتمتع بسمعة أثرية كبيرة فقد سبق له اكتشاف مقبرة الملك «تحتمس الرابع» عام 1903م بمساعدة الأمريكى «تيودور ديفيز».
وبدأت الحفائر فى العام نفسه، ومضى دون أية نتائج مشجعة. وتذكر «كارتر» كل ما قاله أسلافه علماء الآثار السابقون أمثال «جان-فرانسوا شامبليون» و«جاستون ماسبيرو» و«جيوفانى بلزونى« من أن الوادى قد لفظ كل ما بداخله.
ولم ييأس وواصل العمل. فقد كانت ثقة «كارنافون» تدفعه وحبه وصبره يشدان من أزره الذى لا يلين. واستمر الحفر خمس سنوات أخرى دون نتائج مرجوة. ومر صيف عام 1922م دون نتيجة. وكان إيمان «كارتر» كبيرًا بأنه سوف يعثر على مقبرة الملك الصغير ذات يوم. وبدأ اللورد «كارنافون» يقنط ويهمل الأمر كلية ويدعه جانبًا. فطلب «كارتر» منه أن يمنحه فرصة أخيرة: هذا الموسم الذى سوف يبدأ فى نوفمبر 1922م. واستمر الحفر فى مساحة صغيرة مثلثة الشكل أمام مقبرة الملك «رمسيس السادس» لم يسبق الحفر فيها. لقد كان «كارتر» فى مأزق حقيقى إن لم يعثر فى هذا الموسم الأخير على هذه المقبرة، فسوف يرحل اللورد إلى إنجلترا ويفقد التمويل المادى وسوف تذهب جهوده المضنية لسنوات طوال وأحلامه أدراج الرياح.
لم يكن «كارتر» يعلم أن صباح الرابع من نوفمبر هو يوم مجده الحقيقى. يقول «كارتر» فى كتابه الممتع عن مقبرة الملك «توت عنخ آمون» فى معرض حديثة عن ظروف الاكتشاف: «هذا هو بالتقريب الموسم الأخير لنا فى هذا الوادى بعد تنقيب دام ستة مواسم كاملة. وقف الحفارون فى الموسم الماضى عند الركن الشمالى الشرقى من مقبرة الملك «رمسيس السادس». وبدأت هذا الموسم بالحفر فى هذا الجزء متجهًا نحو الجنوب. كان فى هذه المساحة عدد من الأكواخ البسيطة التى كان يستعملها كمساكن العمال الذين كانوا يعملون فى حفر مقبرة الملك «رمسيس السادس». واستمر الحفر حتى اكتشف أحد العمال درجة منقورة فى الصخر تحت أحد الأكواخ. وبعد فترة بسيطة من العمل، وصلنا إلى مدخل منحوت فى الصخر بعد 13 قدمًا أسفل بداية فتحة المقبرة. كانت الشكوك وراءنا بالمرصاد من كثرة المحاولات الفاشلة، فربما كانت مقبرة لم تتم بعد، أو أنها لم تُستخدم، وإن اُستخدمت فربما نُهبت فى الأزمان الغابرة، أو يُحتمل أنها مقبرة لم تُمس أو تُنهب بعد. كنا فى يوم 4 نوفمبر 1922».
ثم أرسل «كارتر» برقية سريعة إلى اللورد «كارنافون» يقول فيها: « أخيرًا، اكتشاف هائل فى الوادى،مقبرة كاملة بأختامها، كل شىء مغلق لحين وصولك. تهانينا».
وهكذا سقطت مزاعم علماء الآثار أمثال: «شامبليون» و«بلزونى» و«ماسبيرو» ممن عملوا فى وادى الملوك وزعموا أنه لم يعد هناك شىء فى بطنه. ثم توالت بعد ذلك مراحل الكشف الأخرى إلى أن تم نقل محتويات المقبرة إلى المتحف المصرى فى القاهرة لتظل شاهدة على حضارة لم ولن تندثر أبدًا.
وفى النهاية أردد مع «كارتر» قوله: «ما زال الغموض فى حياة الملك «توت عنخ آمون» يلقى بظلاله علينا، فعلى الرغم من أن تلك الظلال تنقشع أحيانًا، فإن الظلمة لا تختفى من الأفق أبدًا».
وهكذا تأكد ويتأكد للعالم كله كل يوم أن الرمال المصرية لم تبح بكل أسرارها بعد وما تزال تحتفظ بالكثير من الآثار الرائعة فى بطنها لأجيال عديدة قادمة من علماء الآثار حتى تظل مثيرة للدهشة إلى أقصى درجة ممكنة إلى أن يرث الله الأرض ما ومن عليها. وفى الحقيقة، إن هذا هو شأن أصيل من شئون الحضارة المصرية القديمة العريقة.
* مدير متحف الآثار-مكتبة الإسكندرية