شمس «مصر القديمة» فى متحف «عاصمة الضباب»!
يعد المتحف البريطانى فى عاصمة الضباب البريطانية، لندن، صرحًا ثقافيًا كبيرًا فى تاريخ البشرية جمعاء، وواحدًا من أبرز معالم الإنسانية، حتى إذا فقدت البشرية ذاكرتها وضاعت فى غياهب النسيان، فسوف يكون السجل الحافل بأعظم إنجازاتنا وتاريخنا ومجدنا، بل إخفاقاتنا، نحن بنى الإنسان فى كل مكان وزمان.تم تأسيس المتحف البريطانى العريق فى عام 1753.. وكان أول متحف وطنى فى العالم كله يتم السماح فيه لعامة الجمهور بدخوله بالمجان.. ومنذ اليوم الأول من افتتاحه، فتح المتحف أبوابه مجانًا لجميع الأفراد الذين يدفعهم الفضول والاجتهاد لتحصيل العلم والمعرفة وتحقيق الإبداع والابتكار.
وباستثناء فترة الحربين العالميتين، ظل المتحف يفتح أبوابه يوميًا منذ اليوم الأول، مع زيادة تدريجية فى ساعات الافتتاح، وارتفاع ملحوظ فى عدد الزائرين؛ فتزايدت أعداد زائرى هذا المتحف العملاق من نحو خمسة آلاف فى العام الواحد خلال القرن الثامن عشر الميلادى إلى ما يزيد على ستة ملايين زائر فى العام فى الوقت الحالى.
وترجع أصول المتحف البريطانى إلى التركة الأثرية والثقافية الهائلة التى أهداها له السير هانز سلون (1660-1753 ميلادية) الذى عمل كطبيب وعالم طبيعة.. وكان جامعًا نهمًا للروائع والدرر والتحف الفنية من مختلف العصور والحضارات.
وجمع السير هانز سلون فى حياته ما يزيد على واحد وسبعين ألف قطعة متحفية. وأراد أن يتم الاحتفاظ بها بعد وفاته، فأوصى بإهداء مجموعته كاملة إلى الملك البريطانى، الملك جورج الثانى، باسم الأمة البريطانية، مقابل مبلغ عشرين ألف جنيه استرلينى يدفع إلى ورثة عائلة السير هانز سلون.
وبالفعل تم قبول تلك الهدية الثمينة من السير هانز سلون. وبناء على ذلك، أصدر البرلمان البريطانى قانون تأسيس المتحف البريطانى فى تاريخ 7 يونيو 1753 ميلادية.
وتكونت معظم مجموعات المتحف البريطانى الأساسية من الكتب والمخطوطات والعينات الطبيعية، وكذلك بعض القطع الأثرية والنقود والميداليات والمطبوعات والرسومات والقطع والمواد الإثنوجرافية وغيرها الكثير.
وفى عام 1757 ميلادية، تبرع الملك البريطانى، الملك جورج الثانى، بالمكتبة الملكية العريقة التى جمعها كل ملوك إنجلترا عبر القرون الطويلة للمتحف الجديد، فضلاً عن منح المتحف البريطانى الامتياز الحصرى بالاحتفاظ بحقوق الطبع والنشر.
وبناء عليه، افتتح المتحف البريطانى أمام عامة الجمهور يوم 15 يناير من عام 1759 ميلادية فى مقره الأصلى، فى قصر مشيد فى القرن السابع عشر الميلادى، ويسمى مونتجيو هاوس، بحى بلومزبرى اللندنى الشهير، نفس الموقع الذى يوجد به المتحف البريطانى إلى اليوم الحالى.
شهدت باكورة القرن التاسع عشر الميلادى عددًا من عمليات الشراء والاقتناء الشهيرة لمعروضات جديدة مثل الحصول على حجر رشيد (1802 ميلادية). وفى عام 1823 ميلادية، أدى قيام الملك البريطانى، الملك جورج الرابع، بمنح مكتبة والده (مكتبة الملك) إلى الأمة البريطانية، إلى تشييد مبنى المتحف الأصلى الذى نراه اليوم، حيث أشرف على تصميمه المعمارى البريطانى المعروف السير روبرت سميرك. وبحلول عام 1857 ميلادية، كان البناءون أنجزوا تشييد المبنى الراهن ذى الأضلاع الأربعة، وقاعة القراءة الدائرية.
وبعد ذلك.. وبغرض توفير مساحات أكبر لحفظ مقتنيات المتحف المتزايدة، تم نقل مجموعات التاريخ الطبيعى إلى مبنى جديد فى حى ساوث كنسينجتون اللندنى المعروف خلال ثمانينيات القرن التاسع عشر الميلاد؛ ليصبح بعد ذلك متحف التاريخ الطبيعى الشهير.
وقد شارك المتحف البريطانى فى أعمال حفائر كثيرة فى عدد كبير من دول العالم؛ فكانت مجموعات مقتنياته الأساس لفهم - على سبيل المثال - اللغة المصرية القديمة وفك رموزها. وكان حجر رشيد المفتاح الذى أسفر عن كشف أسرار الكتابة المصرية القديمة.
وتمت زيادة مجموعة المتحف البريطانى من مصادر عديدة؛ فتم جمع قطع أثرية من عصور ما قبل التاريخ، فضلاً عن عدد كبير من الفنون والمواد المختلفة من بلدان الشرق العديدة. وزادت أعداد الزائرين بشكل كبير فى فترة القرن التاسع عشر الميلادى. واجتذب المتحف عددًا كبيرًا من الزائرين من جميع الأعمار والطبقات الاجتماعية.
وإلى جانب الدراسات الأكاديمية، اهتم أمناء المتحف الثقات عبر السنين بتعزيز جاذبية المتحف وتوسيع دوره، من خلال إلقاء المحاضرات الثقافية والتعليمية، وتحسين معارض مقتنيات المتحف، وتأليف الأدلة المطبوعة التى يسترشد بها زوار المتحف من غير المختصين من جميع دول العالم.
وشهد القرن العشرون توسعًا كبيرًا فى الخدمات العامة التى يقدمها المتحف؛ فتم نشر أول دليل موجز للمتحف فى عام 1903 ميلادية وتعيين أول المرشدين فى عام 1911 ميلادية.
وبحلول سبعينيات القرن العشرين المنصرم، أطلق المتحف برنامجًا منظمًا لتجديد قاعات العرض، وأسس خدمة تعليمية جديدة ودارًا للنشر، ونفذ عدة مشروعات إنشائية لتوفير المرافق العامة الإضافية للجمهور.
وفى عام 1973 ميلادية، أصبحت المكتبة جزءًا من مؤسسة جديدة أطلق عليها اسم المكتبة البريطانية. وظلت هذه المؤسسة قائمة فى حرم المتحف إلى أن افتتح مبناها الجديد عام 1997 ميلادية فى حى سانت بانكراس، وتم نقل كتب المكتبة إليه.
أما أحدث عملية توسيع للمتحف فكانت تشييد فناء الملكة إليزابيث الثانية الكبير الذى شيد فى موقع المكتبة السابق. ويعد أكبر مساحة عامة مغطاة فى أوروبا؛ إذ تصل مساحته إلى نحو الفدانين. وفى وسطه قاعة القراءة التى تم ترميمها، بينما شيد حول القاعة وتحتها عدد من المرافق الجديدة، منها قاعات عرض ومركز تعليمى.
وفى عام 2003 ميلادية، احتفل المتحف بعيده السنوى رقم 250 بتنفيذ مشروع تحديث وتجديد مكتبة الملك. وهى أقدم قاعة فى المتحف. وتم تدشين معرض دائم جديد تحت عنوان «عصر التنوير: اكتشاف العالم فى القرن الثامن عشر الميلادى».
ويواصل المتحف فى أوائل القرن الحادى والعشرين الميلادى توسيع مرافقه العامة، مع افتتاح معارض دائمة جديدة. واليوم يتطلع المتحف إلى تنفيذ مشروع جديد ضمن سلسلة مشروعاته الإنشائية الضخمة، وهو مشروع المركز العالمى للمعارض وحفظ الآثار، الذى سيشتمل على مساحة جديدة للمعارض المؤقتة.
يعتبر قسم المصريات فى هذا المتحف العظيم من أهم القلاع الثقافية التى تشد إليها الرحال من كل بقاع المعمورة؛ نظرًا لما يحويه من آثار تشهد بفرادة وعظمة الآثار المصرية الموجودة به والتى تمثل قمة إبداع الحضارة المصرية التى نشأت على ضفاف نهر النيل العظيم منذ أقدم العصور، معبرة فى تناغم ليس له مثيل عن عطاء الإنسان المصرى، ذلك البناء العظيم المحب للتحضر والتشييد والبناء أبد الدهر.
وتعد حضارة مصر القديمة أكبر هاد للبشرية عبر تاريخها المجيد التليد، وشاهدة على عظمة حضارة مصر التى قامت على قيم وأسس أخلاقية عديدة منها حب الحق والخير والتمتع بالجمال وإقامة العدل.
وتضرب دومًا مصر القديمة المثال الواضح على حضارة قامت على احترام العلم وتقديس الدين وتطبيق العدالة بدقة وتبجيل الحق والإعلاء من شأن الإبداع والجمال. وتعد حضارتنا المصرية القديمة مثالاً صالحًا فى كل زمان ومكان لكل الحضارات قديمًا وحديثًا للاقتداء بمصر وحضارتها واعتبارها نموذجًا يقتدى به ونبراسًا يهتدى به فى لجة الظلمات التى قد تحدق بحضارة ما فى وقت معين من تاريخ عالمنا قديمه وحديثه.
وشكلت القطع الأثرية المصرية القديمة نواة مجموعة المتحف البريطانى منذ بداية تأسيسه؛ إذ ضمت المقتنيات التى أهداها السير هانز سلون إلى الأمّة عند وفاته فى عام 1753 نحو مائة وخمسين قطعة من مصر القديمة.
ويحتوى قسم الآثار المصرية فى المتحف البريطانى حاليًا على أكثر من مائة ألف قطعة. وهى مجموعة كبيرة من التماثيل وأعمال النحت التى تعود إلى عشرة آلاف سنة قبل ميلاد السيد المسيح عليه السلام.
بدأ الولع الأوروبى بمصر ينمو بعد أن غزا نابليون بونابرت مصر فى عام 1798 ميلادية؛ خصوصًا أن حملته المصرية اصطحبت معها مجموعة من العلماء المتخصصين لتسجيل مختلف المعلومات عن مصر. وعندما هزم البريطانيون فرنسا فى مصر عام 1801 ميلادية، اشترطت معاهدة الاستسلام أن يتنازل الفرنسيون عن عدد من القطع الأثرية، وكان من بينها حجر رشيد، الأشهر بين كنوز المتحف البريطانى؛ إذ أعطيت هذه الآثار فى عام 1802 إلى المتحف باسم الملك البريطانى، الملك جورج الثالث.
وبعد ذلك.. خضعت مصر لحكم محمد على وخلفائه الذين كانوا حريصين على الترحيب بالأجانب فى بلادهم وإهدائهم بعضًا من الآثار المصرية. وسرعان ما بدأ القناصل الأجانب المقيمون فى مصر ينهبون آثار مصر ويشحنون مجموعات كبيرة من الآثار المصرية الفريدة والمهمة إلى بلادهم ومتاحف عواصمهم الأوروبية.
وبالفعل نهب القنصل البريطانى الشهير هنرى سولت مجموعة كبيرة من الآثار المصرية بمعاونة وكيله الشهير بلزونى الذى كان مسئولاً عن إزالة التمثال النصفى للفرعون الأشهر الملك رمسيس الثانى، والمعروف باسم «ممنون الأصغر»، وأهداه إلى المتحف البريطانى فى عام 1817 ميلادية.
وجمع القنصل هنرى سولت مجموعتين مهمتين شكلتا محور مجموعة قسم الآثار المصرية القديمة فى المتحف البريطانى. وفى ثلاثينيات القرن التاسع عشر الميلادى حصل المتحف على عدد كبير من مجموعات البرديات والآثار المهمة. وبحلول عام 1866 ميلادية، كانت المجموعة تتألف من نحو عشرة آلاف قطعة من كنوز مصر القديمة التى لا تقدر بثمن.
وبدأت الآثار المستخرجة المصرية من الحفائر ترسل تباعًا إلى المتحف البريطانى فى أواخر القرن التاسع عشر الميلادى، بمساعدة من صندوق استكشاف مصر (والذى صار جمعية فى الوقت الراهن). ودون شك ساهمت جهود عالم المصريات البريطانى المعروف «إى. إيه. واليس بادج»، أمين قسم المصريات فى الفترة من 1894-1924 ميلادية، فى إثراء مجموعة المتحف البريطانى من الآثار المصرية العريقة وكانت مصدرًا رئيسًا آخر للآثار المهربة لقسم المصريات به.
وزار بادج مصر بانتظام وشحن مجموعة واسعة من البرديات والآثار الجنائزية حتى وصل تعداد المجموعة إلى نحو سبعة وخمسين ألف قطعة عندما تقاعد عام 1924 ميلادية.
وتقلصت برامج الحفائر فى السنوات التالية. ولم يعد تهريب الآثار المصرية من مصر إلى المتحف البريطانى ممكنًا فى الفترة الحالية؛ نظرا لقوانين حماية الآثار المصرية التى حرمت ذلك ومنعت بذلك طوفان الآثار المصرية المسروقة والمرسلة إلى خزائن المتحف البريطانى فى لندن.
وتتواصل فى الوقت الحالى دراسة مجموعة الآثار المصرية الموجودة فى المتحف البريطانى ويتم إجراء البحوث العلمية عليها. ولم تتوقف أعمال البعثات الأثرية التابعة للمتحف والتى تعمل فى عدد من المواقع الأثرية فى الأرض المصرية، وذلك ضمن تنفيذ برنامج المتحف البريطانى للأعمال الأثرية الميدانية فى أرض مصر الثريّة بالآثار.
يحفل قسم المصريات بالمتحف البريطانى بلندن بعدد كبير من الكنوز التى لا يقاوم سحرها إنسان. من آثار عصور ما قبل التاريخ إلى نهاية العصور اليونانية-الرومانية. ولا يمكن لأحد أن ينسى حجر رشيد، والتماثيل الملكية المعروفة مثل تمثال الملك رمسيس الثانى الشهير، ورأس الملك أمنحتب الثالث المعروف، وتمثال الملك أمنحتب الثالث الشهير على شكل أسد، ومقبرة ومقصورة النبيل نب آمون التى تجسد قيم ومفاهيم الحياة والموت فى مصر القديمة وتصور المدعو نب آمون فى مشاهد عدة مثل المنظر الرائع الذى يصوره يصطاد فى أحراش الدلتا المصرية، وكذلك برديات كتاب الموتى الفرعونى، وتماثيل المعبودات الفرعونية كالربة باستت، والأبواب الوهمية، ومناظر المتوفى جالسًا إلى مائدة القرابين، وتماثيل الأفراد الجماعية، وغيرها الكثير من الآثار المصرية الساحرة.
وسوف يظل قسم الآثار المصرية القديمة فى المتحف البريطانى واجهة المتحف الثقافية الكبرى التى يأتى إليها كل زائر للمتحف من كل حدب وصوب، قاصدًا التعرف على حضارة سادت العالم القديم كله، وأثّرت فيه بقوة، ولا تزال تؤثر بامتياز فى كل كائن كان عبر فضاء المعمورة الفسيح. إنه سحر مصر القديمة الذى لا يقاوم أينما كان، والذى سوف يظل جاذبًا لكل العقول والأفئدة مهما اختلفت العصور وتغير الإنسان وتعددت الأزمان.