
د. مني حلمي
هايل.. ممتاز.. نابغة.. بس ملحد
ماذا يعنينى أنا، كمواطنة مصرية، إذا كان عم إبراهيم، صاحب السوبر ماركت، الذى أشترى منه، الجبن الأبيض، والزيتون الأسود، والبن الفاتح المحوج، مسلما، ولا مسيحي، ولا يهودى، ولا يتبع ديانة أرضية مثل البوذية، أو كان ملحدا، أو لا دينى؟.
كل حقوقى، على عم إبراهيم، هى أن يبيع لى، الجبن الأبيض طازجا، والزيتون الأسود، من برميل نظيف، والبن المحوج خاليا من الشوائب، بالأسعار المعتمدة فى السوق. وهى حقوق، كما هو واضح، ليس لها علاقة، على الإطلاق، بالديانة، التى ورثها من أهله. أو بالديانة التى اختار التحول لها.
والمواطنة المصرية، التى تعمل بالطب، مثلا، عليها أن تلتزم، بقسم أبقراط، الذى يلزمها بتقديم الطب، كرسالة سامية، وليس كمهنة، للتجارة، والربح، على جثث المرضى. وهذا واجب وطنى، لا ينقصه، ولا يزيده، أن تكون الطبيبة، مسلمة شيعية، أو مسلمة سُنية، أو لا دين، ولا مِلة لها.
وماذا يفيدنى أنا، لو كانت جارتى، ملحدة، أو يهودية.
كل ما يهمنى، ألا تنتهك أخلاقيات الجيرة، فلا تلقى بالقمامة أما شقتى، ولا تزعجنى بالأصوات العالية، ولا تتطفل على خصوصية بيتى بالبحلقة، ولا تكون عقبة أمام التعاون، لصالح العمارة، إذا لزم الأمر.
إذن فى المجتمع، وبين جميع المواطنات، والمواطنين، نحن لا نحتاج، فى كل المجالات، إلا لمعايير «الكفاءة»، و«الالتزام بالقانون»، و«حقوق الإنسان»، و«النزاهة»، و«الأمانة»، و«الذوق»، و«الأدب»، و«حسن المعاملة».
منذ أيام، سألت إحدى معارفى، عن طبيب أسنان «كويس». قالت:
«كان فيه واحد شكروا لى فيه شاطر هايل ممتاز نابغة عصره.. مش جشع زى الدكاترة التانيين... مواعيده مضبوطة بالثانية... وعيادته فى منتهى النظافة، والترتيب.. بس مصيبته أنه ملحد».
قلت لها: «أريد عنوانه»؟. قالت: «ده ساب البلد وهاجر».
يؤسفنى القول، بأن الإرهاب ليس فقط، الذى يحمل أسلحة، ويسفك الدماء، ويذبح وهو يردد: «الله أكبر».. لكن هناك إرهابا، مغروزا فى الوجدان، وفى النفوس، وهو فعلا الأكثر خطورة.
وإذا كانت إحدى معارفى، «القاهرية»، قد واصلت التعليم، حتى درجة الدكتوراه، وكل سنة تسافر إلى الخارج، وتقول: «مصيبته أنه ملحد ملوش دين»، فما هو حال الآلاف، بل الملايين، غير المتعلمين، فى القرى، وفى الأقاليم، والمدن، المنغلقة؟
ما معنى «مصيبته أنه ملحد ملوش دين؟». لقد أعطت هذه المرأة نفسها الحق فى محاكمة الطبيب، «النابغة»، «غير الجشع»، «النزيه»، «الهايل»، فى مهنته. وبعد محاكمته، تقول: «مصيبته أنه ملحد ملوش دين».
وهى تناقض نفسها، لأنها تقول: «مصيبته «. إذن إلحاده، أو لا دينيته.
«مصيبته «هو وليست مصيبتها هى، أو مصيبتنا نحن المرضى الذين نذهب للعلاج عنده، للاستفادة من نبوغه، ومهارته، ونزاهته، وحسن معاملته. وهو حر تماما فى الأفكار، والفلسفة، والعقائد، التى يريد الانتماء لها. طالما أنه لا يؤذينى، ولا يضرنى، ولا يستغلنى، ولا يتعدى على أفكار، وفلسفة، وعقائد الآخرين. كل إنسان حر تماما، فى أى «مصيبة»، يؤمن بها، طالما أنها «محبوسة» داخله، لا يسمح لها بالتدخل فى حياة الناس، وإفساد حرياتهم، ومحاكمتهم أخلاقيا، ونبذهم اجتماعيا، وثقافيا، وإعلاميا.
الأمر الآخر، أن هذه المرأة، جاهلة تماما، ولا تميز الفوارق بين الأشياء، مثل الكثيرين، حتى الذين يعملون فى مجال الثقافة، والإعلام، ويعتقدون أنهم جهابزة الفكر، ورواد التنوير.
إن «الإلحاد»، أو «اللادينية»، ليست تهمة دينية، وليست إدانة ثقافية، وليست جرما جنائيا، وليست اضطرابا نفسيا كما قالت إحدى الباحثات، وليست إعوجاجا فى الفكر كما قالت إحدى الإعلاميات، وليست وصمة عار تستحق الإهانة أو السخرية.
«اللادينية»، أو «الإلحاد»، موقف فكرى، وسياق فلسفى، وطريقة مختلفة، لفهم الوجود، وتفسير الظواهر الكونية، وإعادة صياغة التساؤلات، وعلاقة الإنسان بالحياة، وبنفسه، وبالعالم المحيط به، ومرجعية الفضائل والأخلاق، والحرية الإنسانية.
وكم أندهش ممنْ يعملون فى المجال الإعلامى، الذين يجهرون بمفاهيمهم المغلوطة، عن «الإلحاد»، أو «اللادينية». بل ويعطون أنفسهم دون مبرر، الحق العلنى لسب، وإهانة، والسخرية من غير المؤمنين مثلهم، وينظرون إليهم كأنهم كائنات فضائية غريبة شاذة، نزلت الأرض لإشاعة الفساد، والضلال، والفتنة، والبلبلة، وازدراء الأديان، والإساءة إلى الإيمان. ويتمادون أكثر، فيطالبون المجتمع، بالتخلص منهم بأى شكل، ومحاكمتهم، وإبادتهم، وتصفيتهم، قبل أن يبثوا سمومهم، وينجح مخططهم الشيطانى.
ليس هناك أسوأ ممنْ يتصور أنه «على حق»، وأنه بالديانة الموروثة، أفضل، وأصلح، من ناس لهم أديانهم الخاصة المختلفة ، أو آخرين اختاروا الفكر اللادينى.