
د. مني حلمي
من البكينى إلى الحجاب إلى النقاب إلى القبر
« هاجر»، هذا اسمها. طفلة وحيدة مدللة، فى أسرتها الصغيرة، ميسورة الحال، لا تطمع فى شىء، إلا فى الستر، وحُسن الختام .
كانت « هاجر»، هدية السماء، لأب أكدت له التقارير الطبية، أنه غير صالح للإنجاب .
وكانت الفرحة الوحيدة، لأم اعتقدت أنها حين ترحل، لن تجد الابن، أو الابنة، التى تتلقى عزاءها .
من الأب، أخذت هاجر، طيبة القلب. ومن أمها، أخذت الكرم، والتواضع .
كل صيف، تسافر هاجر، إلى الإسكندرية، فى سيدى بشر، حيث الشاطئ المفعم بعشق البحر، والحرية، والفرسكا، والمرح الراقى، المتحضر، بين الشباب، والشابات .
هاجر، تلبس المايوه البكينى، وتسبح بعيدا، لتكتشف هل هناك نهاية، لزرقة البحر .
تتمدد على الرمال الساخنة، لتسمح للشمس، أن تتسلل إلى كل جزء من جسدها، المتعطش للدفء .
أنهت هاجر، دراستها الجامعية، بتفوق، وعُينت معيدة.
كانت هاجر، تعيش قصة حب، بدأت فى سيدى بشر، واستمرت ثلاث سنوات. لم تعرف هاجر، أن حبيبها «مراد»، مسيحى، إلا عندما جاء موعد الزواج. قالت: مكنتش أعرف . رد مراد: أنتى عمرك مسألتينى».
بسهولة، ودون تردد، من الأسرتين، تم الاتفاق على أن يشهر مراد إسلامه .
تساءلت هاجر، لماذا لا نكتفى بالحب، حتى يكون الزواج، صالحا، وشرعيا ؟
كان مراد، يعمل فى أحد البنوك المصرية. وكان يشجع هاجر، على تكملة الدراسات العليا، ويقتسم معها، أعباء البيت. ويشاركها الرأى، فى ضرورة تأجيل الإنجاب، لبضعة سنوات.
لكن القدر، كان لهما بالمرصاد. فقد مات مراد، بعد حادث سيارة، مروع وتحولت حياة هاجر، إلى جحيم تود منه الخلاص.. هى تعيش، وتكمل رسالة الدكتوراه، وتواصل التدريس بالكلية، دون مبالاة، دون حماس، دون أمل فى أى شىء. تمشى كالتائهة، عيونها شاردة، خطواتها ثقيلة، شهيتها للطعام تفتر، لا يأتيها النوم، إلا مع بداية الفجر .
وتزوجت هاجر، للمرة الثانية، من أحد معارف العائلة، رجل أعمال، اسمه، طه بيه، الذى عاد من الخليج، بعد عشر سنوات من العمل هناك.
فى سنتين متتاليتين، فقدت هاجر، أباها، وأمها .
بالتدريج، تحول اسم هاجر، من «الأستاذة هاجر»، التى تعد الدكتوراه، إلى «حرم»، طه بيه، التى تعد نفسها، كل ليلة، جسدا شهيا، لرجل لا يشبع، من فحولته، التى تربت على السمن البلدى، والمنشطات الجنسية .
طه بيه، لا يعجبه سفور زوجته، وخروجها كل يوم، الى الجامعة. كل يوم، يدب معها خناقة، تصل أحيانا إلى أن يضربها. يقول لها: « هو إحنا محتاجين الملاليم اللى بتقبضيها من الحكومة؟ الناس يقولوا عليا إيه، سايب مراته تتمرمط عشان مش مكفى بيته.. أنا لما أقول كلمة، ماحبش حد يتنيها عليًا .. وبعدين هتتحجبى غصب عنك.. ستات وبنات عيلتنا اتحجبوا كلهم .. أنتى عايزة تهزئينى.. يقولوا مش عارف يحكم الست حرمه؟».
تركت هاجر، شغلها، وقعدت فى البيت، ولبست «الحجاب». وكلما ازدادت الصفقات التجارية، التى يعقدها طه بيه، كلما ازداد تشدده، وتزمته،
مع زوجته هاجر . وفى يوم، أحضر لها، شرائط تسجيل، تحتوى على مواعظ، وفتاوى، دينية . قال لها: «دول من أختى الحاجة دولت، ربنا يبارك لها فى ميزان حسناتها».
وسافرت هاجر، مع زوجها، لأداء الحج. وبعدها بأيام، عادت ملفوفة فى النقاب الأسود، لا يظهر منها، إلا ثقبا العينين.
بعد عدة شهور، أصبحت الحاجة هاجر، تعطى دروسا دينية، للنساء، والفتيات، فى الحى الذى تسكن فيه، كل يوم أربعاء، بعد أن ختمت القرآن، بتشجيع، وإيحاء، ومساعدة الحاجة دولت، أخت زوجها .
فى غرفة العمليات، هاجر، تصرخ من شدة الألم. فالجنين فى وضع غير طبيعى، وعلى الطبيبة، التدخل سريعا.
يمر الوقت عصيبا على الزوج المنتظر. يدعو الله، أن ينقذ زوجته، وطفله الأول.
ثم تخرج الطبيبة، ومعها المولود، بين يديها، وتقول للزوج: «بذلنا أقصى جهدنا .. لكن دى إرادة ربنا».
حاملا ابنه الوليد، إلى خارج المستشفى، يتذكر الحاج طه بيه، ليلة الأمس، حيث رأى هاجر، لآخر مرة، وهى على السرير، وتقول له، فى صوت واهن، والعرق يتصبب من جبينها: «لو جه ولد يا حاج، أمانة عليك، تسميه مراد..». وراحت فى غيبوبة.