السبت 18 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
المخرج الذى يحلم أن يكون راقصاً!

المخرج الذى يحلم أن يكون راقصاً!


لم يصنع خيرى بشارة سوى عدد قليل جداً من الأعمال السينمائية الروائية، 11 فيلما فقط خلال مسيرة تمتد لحوالى نصف القرن، منذ تخرجه فى المعهد العالى للسينما عام 1967، ذلك العام الفارق فى تاريخ مصر، وتاريخ السينما المصرية.. أول هذه الأعمال هو «الأقدار الدامية» عام 1982 وآخرها «إشارة مرور» عام 1996  يعنى منذ عشرين عاما حتى وقتنا الحالى.

قبل هذه الأعمال الروائية عمل خيرى بشارة كمساعد مخرج، كما أخرج عددا من الأفلام التسجيلية، من بينها واحد من أفضل الأعمال التى صنعت عن حرب أكتوبر وهو «صائد الدبابات»، وآخر عمل «سينمائي» قدمه كان «ليلة فى القمر» عام 2011 وهو فيلم تجريبى ذاتى يمزج بين الروائى والتسجيلى، لم يعرض سوى فى المهرجانات وبعض العروض الخاصة، قبل أن يتجه فى السنوات الأخيرة إلى إخراج بعض المسلسلات التليفزيونية «العادية»، والتى لا تحمل شيئا من روح ووهج أعماله السينمائية التى دشنت اسمه كواحد من أنبغ أبناء جيل الثمانينيات وأحد مؤسسى ما يعرف بـ«الواقعية الجديدة»، مع رأفت الميهى وعاطف الطيب ومحمد خان وداود عبدالسيد ويسرى نصر الله.
هل قرر خيرى بشارة أن يصمت بإرادته بعد «إشارة مرور»، أم إن صناعة السينما فى مصر هى التى قررت الاستغناء عن صوته؟.
 سؤال تصعب الإجابة عنه، حتى لو كنا متأكدين أن الطرفين، بشارة وصناعة السينما فى مصر، شريكان متواطئان ومسئولان عن هذه الجريمة!.
من ناحية كانت صناعة السينما فى مصر تمر بواحدة من أسوأ فترات انهيارها فى منتصف تسعينيات القرن الماضى، وبدون الخوض فى تفاصيل كثيرة يمكن أن نقول أن عام 1996 لم يشهد فقط آخر أعمال خيرى بشارة ولكنه شهد نهاية عصر كامل، قبل أن يولد عصر جديد مختلف كل الاختلاف فى العام التالى مع النجاح الكبير المفاجئ لفيلم «إسماعيلية رايح جاي» وبداية موجة الكوميديا التى صنعت نجومها وكتابها ومخرجيها وسيطرت على الساحة لأكثر من عشر سنوات.
من ناحية ثانية، لم يكف زملاء خيرى بشارة عن المحاولة وراح كل منهم يبحث عن سبل للنجاة والاستمرار، ونجح كل منهم بطريقته فى صنع فيلم على الأقل كل بضع سنوات.. هو وحده بدا مستسلماً وعازفاً عن المقاومة وأتذكر أنه كان مغرماً فى ذلك الوقت بمقال شهير لكاتب أمريكى عن ظهور وصعود الثورة الرقمية كان يحمل عنوان «موت السينما»، وهى المقولة التى لم تزل تتردد بأشكال مختلفة إلى اليوم، مرة بسبب الكاميرات الرقمية ومرة بسبب القرصنة ومرة بسبب الفضائيات ومرة بسبب «اليوتيوب» وقنوات الأفلام على الإنترنت.
الثورة فى وسائل الاتصالات سبقتها وصاحبتها ثورة أخرى سياسية واجتماعية ولا ننسى أن مقال «موت السينما» سبقه مقال شهير آخر بعنوان «موت التاريخ» تنبأ فيه صاحبه بموت المجتمعات القديمة والنظم الاشتراكية وانتصار الرأسمالية.
المدهش فى الأمر أن خيرى بشارة كان الوحيد تقريبا بين زملائه الذى رأى العصر الجديد واحتضنه فى أفلامه بداية من «كابوريا» وحتى «إشارة مرور»، ولو أن أحدا سألنى عام 1996 عن المخرج المصرى الأكثر قدرة على استيعاب التطورات التقنية والسياسية الحديثة والأكثر قدرة على الاستمرارية لكان خيرى بشارة أول اسم يخطر ببالى.. مع ذلك كان هو الوحيد من بينهم الذى توقف عن صنع مزيد من الأفلام.
أعرف جيدا أن توقف خيرى بشارة لم يكن نتاج قرار منه، وكنت شاهدا شخصيا على بعض مشاريع الأفلام التى كان ينوى صنعها، ومنها فيلم من بطولة نبيلة عبيد وفيلم آخر عن حياة وموت الأميرة ديانا شاركت فى كتابة بعض مشاهده.. وهنا يجب أن يأتى النصف الثانى من الإجابة وهو أن صناعة السينما المصرية فى التسعينيات التى ساهم خيرى بشارة بقوة فى تطويرها ودفعها للأمام بمجموعة من الأفلام الغنائية الكوميدية التى مزجت بنجاح استثنائى بين العناصر التجارية والفنية.. هذه الصناعة لم تستوعب خيرى بشارة فى الوقت الذى استوعبت فيه مخرجين أكثر تقليدية!.
 لقد عدنا إلى بداية السؤال مرة أخرى، ويبدو أننا نحتاج إلى تفسير آخر.
 انتبه خيرى بشارة مبكرا إلى موجة «الأغنية الشبابية» التى ظهرت فى الثمانينيات، وكان أول من استعان بنجومها كممثلين فى أفلامه، منذ «يوم مر.. يوم حلو» عام 1988 الذى جمع فاتن حمامة بمحمد منير وسيمون، ثم «كابوريا» الذى استعان فيه بأغانى وموسيقى حسين الإمام التى تضج بالمرح والسخرية، مرورا على «آيس كريم فى جليم» الذى لعب بطولته عمرو دياب وسيمون، و«أمريكا شيكا بيكا» الذى شارك فى بطولته محمد فؤاد، وصولا إلى «قشر البندق» الذى كان أول وآخر فيلم يشارك فى بطولته الموسيقى والمغنى حميد الشاعرى، صانع النجوم وصاحب مصطلح «موسيقى الجيل» الذى وضعه كبديل لمصطلح «الأغنية الشبابية» سيئ السمعة.. استعانة خيرى بشارة بهؤلاء المطربين لم تكن فقط بهدف مغازلة جمهور الشباب، ولكن فى تصورى كانت تهدف إلى تلوين أفلامه بروح وإيقاع هذه الموسيقى والأغانى «الشبابية»، والتى تراجعت هى الأخرى مع نهاية الألفية الثانية، واختفى بشكل نهائى أو مؤقت بعض نجومها ومنهم حميد الشاعرى وسيمون.
رغم الهجوم الشديد الذى تعرضت له «الأغنية الشبابية» ونجومها وخاصة حميد الشاعرى، فإننا حين نستمع إليها اليوم نشعر بروح ودبيب إيقاع نهاية الألفية ونستشعر نوعا مميزا من الحنين يمزج بشكل عجيب بين البهجة والشجن.. وبين الخفة والقلق، بين الجدية والسخرية، وهى نفس الروح التى نجدها فى أفلام خيرى بشارة الأخيرة، خاصة التى شارك فى بطولتها مطربون.. وهذه الأغانى الخفيفة الشجية قبل أن تحل عواصف الألفية الثالثة علينا بسينماها المفرطة فى الضحك وأغانيها المفرطة فى الابتذال.
إنه مثل سيف، بطل فيلمه «آيس كريم فى جليم»، يحلم بأن يكون ألفيس بريسلى عصره، ولكن يعجز عن أن يجد الموسيقى أو الكلمات التى تستوعب ما يموج فى روحه من قلق وفرح.. وهو مثل صلاح جاهين، الشاعر الذى كان يهوى رقص الباليه!.
إننا نكاد نشعر أن خيرى بشارة فى أفلامه الأخيرة لم يعد يكفيه فن السينما ولا حكاياتها النمطية، خاصة السينما المصرية.. وأنه كما لو كان يرغب فى أن يكون مغنيا أو راقصا أكثر مما يرغب فى أن يكون مخرجا...لكن لا شروط السوق ولا نوعية المشروعات الفنية التى تسمح بتقديمها هذه السينما ولا مزاج الجمهور فى ذلك الوقت كان بمقدورهم استيعاب واحتضان سينما خيرى بشارة وروحه المتمردة.
لماذا صمت خيرى بشارة؟
لأن الناس حاسين بالبرد، وفى قلبه شم نسيم!>