د. مني حلمي
يريدون خيولا لا تصهل
منذ أيام، شاهدت على إحدى قنوات ماسبيرو، برنامجا يناقش الرقابة على الأعمال الفنية. . الضيوف على اختلاف مواقعهم، اتفقوا على أن الرقابة من أهم أجهزة، ومؤسسات الدولة، ولا يمكن الاستغناء عنها. فهى «ضرورة».
وعندما نسأل ما هى «الضرورة»؟ يعلو صوت الرقابة، وكأنما هى فى محاولة لحشد الجماهير إلى صفها: «حفاظاً على أخلاق هذه الأمة.. وحماية للقيم الإسلامية.. وعدم الإساءة إلى سُمعة الوطن.. وعدم المساس بعادات، وتقاليد، وثوابت هذا البلد العريق، وعدم السخرية من موروثات ومعتقدات هذا الشعب المتدين، الطيب، وعدم إفساد الشباب، والحفاظ على شرف البلاد، وتدعيم الانتماء».
إن كلمة «رقابـة» (وكل توابعها من حذف ورفض ومصادرة ومنع واتهام وإدانة) هى كلمة من قاموس العبودية القديم، حيث كان «الأسياد» يراقبون مّنْ يملكون مِن «عبيد» و«جواري».
مع الوقت، انتهت العبودية بشكلها المباشر، التقليدي. نجد الآن النظام الطبقى الأبوي، السائد عالميا، والذى أنتج فى الأساس عصور العبودية. لكنه متطور، ومتشابك، ومعقد، سياسياً، واقتصادياً، وتنظيمياً، وثقافياً، وتكنولوجيا.
والقارئ للتاريخ، يكتشف كيف أن الطبقية، والأبوية، نشأتا فى الوقت نفسه. تدلنا صفحات التاريخ، على أن اكتشاف أبوة الرجل - أو دوره فى عملية إخصاب المرأة - تزامن مع بدء نشوء الملكية الخاصة، تزامن مع فرض الزواج الأحادى على المرأة، ثم جميع أشكال القهر والسيطرة.
فمعرفة الرجل لأبوته أمر غير ممكن، إلا إذا فُرض على المرأة، رجل واحد. معرفة الرجل لأبوته، جعلته يريد ضمان عدم اختلاط الأنساب، كما كان فى حالة المشاع قبل فرض الزواج الأحادى على المرأة. فالرجل غير مستعد، ولا يقبل الإنفاق، أو توريث أملاك، لابن لا يعرف نسبه، ولا يضمن أنه من لحمه، وصلبه. هذه هى فكرة الزواج الأحادي، للمرأة، والغاية منه. وليس لها أى منطق «أخلاقي». لكنه منطق «اقتصادي» بحت.
وهناك كلمات خاصة بالطبقة الأدني، مثل.. خضوع.. طاعة.. تكيف.. الصبر.. الامتثال - الاستسلام.. وغيرها مما يعنى الضعف والدرجة الدنيا.
وكلمات عكسية خاصة بالطبقة الأعلى مثل.. سيطرة.. أوامر.. تعليمات.. منع.. عقاب.. مصادرة.. تفتيش.. تعسف.. تسلط.. توجيهات.. رقابة، وغيرها مما يعنى القوة والدرجة العليا.
إذن كلمة «رقابـة» تستلزم طرفا أعلي، وطرفا أدني. «الرقابة» على الإبداع، إذن تبدأ بافتراض أنها الطرف الأعلي، وأصحاب الإبداع هم الطرف الأدني. وبما أن هناك أعلي، وأدني، لابد أن توجد آلية، لها شرعية معينة، بها يحدد الطرف الأعلي، «حركة» الطرف الأدني، منذ ولادته، وحتى موته.
هذه الآلية، هى «الرقابـة»، التى تلعب على الأوتار الحساسة لدى الشعب، وهى حماية الأخلاق والقيم الدينية والعادات والتقاليد والسُمعة، الوطنية. تروج «الرقابة» خاصة فى البلاد التى تفتقد شعوبها فهماً عالياً لطبيعة الإبداع والفن، أنها «فلتر»، ينقى الإبداع من الملوثات المختلفة، التى يمكن أن تلوث النفوس، والعقول، والضمائر والقلوب.
كيف، ولماذا، تحدد الرقابة للشعب، ما الذى يقرأه، ويسمعه، ويشاهده؟ إن الشعب ليس «قاصراً»، وليس فى «عهدة» أحد. والوطن وطن، وليس «مركز أحداث»، شعاره «لوطن تهذيب واصلاح». الشعب رجالاً ونساءً، قادر على التمييز، والاختيار.
هكذا تتقدم المجتمعات. أما نحن «محلك سر». الإبداع لا يعرف قواعد، ولا يؤمن بالأشكال والمضامين، المحددة. الإبداع فى جوهره، «تمرد»، لا يقبل بأى سلطة. إن كسر الإبداع للسلطات، مثل الصهيل للخيل. لكنهم يريدون خيولا لا تصهل. لا سلطة دينية، ولا سلطة ثقافية، ولا سلطة أخلاقية، ولا سلطة نقدية، لها حُكم على الإبداع.
للابداع حرية التحليق، كما يشاء وبهذا يدفع المجتمع للتقدم. كيف تزعم «الرقابة» أن عملاً إبداعياً ما، يصدم الدين والأخلاق والتقاليد؟ هل الدين، والأخلاق، والتقاليد، هشة إلى درجة الحذف، أو المنع، أو الرفض، أو المصادرة؟ كيف يمكن لخيال فى رواية، أو قصيدة، أو حلم فى لوحة تشكيلية، أن يهز الدين، والأخلاق والتقاليد، إلا إذا كان الدين، والأخلاق، والتقاليد، ديكورا من ورق؟
إن الإبداع الذى لا يصدم شيئاً، ليس إبداعا. هو تسلية، تعيد إنتاج الواقع الموروث. إن الإبداع، مرآة فاضحة للتناقضات، وكشف «للمستور»، ورؤية صدامية للواقع، يثريها الخيال، والرؤية المتقدمة وجدانيا، وعقليا.
إن المبدعات، والمبدعين، أكثر حبا للوطن، وللإنسانية. فهم بإبداعاتهم، يكشفون الطريق، نحو المزيد من الحرية، والعدل، والصدق، والجمال.
من واحة أشعارى:
يحسدنى « بعض» الناس على أفراحي
يحسدنى «كل الناس» على أحزانى







