
عاطف بشاى
مستقبل العالم
يفجر الدكتور «جلال أمين» فى الفصل الأخير من كتابه المهم «العالم عام (2050)» قنبلة بزعمه أن هناك من الشواهد ما يجعل من المحتمل جداً أن نكون مقبلين على عصر جديد من الفكر الاقتصادى له سمات أقرب إلى سمات الفكر الذى ساد فى الخمسمائة سنة الماضية حيث يقل الكلام عن «الندرة» ومشاكلها ويحل محله الكلام عن «الوفرة» ومشاكلها.. وتقل بشدة حدة الفصل بين الاقتصاد والأخلاق.. أو بين الأخلاق والسياسة وغيرها من العلوم الاجتماعية ونعود إلى الجمع بينها. وتضعف بشدة النزعة القومية فى الفكر الاقتصادى ويصبح علم الاقتصاد أكثر إنسانية وأكثر عالمية.. وأوسع أفقاً من أفق الدولة القومية.
ولابد أن القارئ سوف تصيبه الدهشة من تفجير هذه القنبلة على لسان «د. جلال أمين»، لكن الدهشة تتضاعف حينما يواجهنا «د. جلال» بدهشته الشخصية من كلامه.. ويعترف أنه يبدو غريباً وغير مقبول، إذ كيف تكون سمات الفكر الاقتصادى فى المستقبل شبيهة بالفكر الاقتصادى فى العصور الوسطى مع كل ما حدث من تقدم فى التكنولوجيا والعلم ووسائل الإنتاج؟! كيف يكون الفكر الاقتصادى فى عصر الكمبيوتر وغزو الفضاء وثورة المعلومات وعصر ما بعد الصناعة شبيهاً بالفكر الاقتصادى الذى ساد فى عصر لم يكن يعرف إلا الزراعة.. بأساليب بدائية وصناعة محدودة جداً بأساليب بدائية أيضاً.. ولا يكاد يستطيع أن ينتج أكثر من الحد الأدنى الضرورى للحياة.. يناقش المفكر هذا الأمر ولا يجزم بما يشفى غليل القارئ إلى المعرفة.. ويوضح أن يكون هذا بالفعل ما حدث، حيث تضاعفت كميات وسائل الإنتاج وتطورت وزادت معها الوفرة والرخاء (أو على الأقل إمكانيات تحقيق الرخاء) إلى درجة جعلت فكرة الندرة مهددة بالاختفاء وإلى حد كاد يجعل الكلام عن الموارد المحدودة بالمقارنة بالحاجات غير المحدودة الذى دأب الاقتصاديون على ترديده سخيفاً وغير مقبول.. ويؤكد «د. جلال أمين» أن الندرة كما نعرف تتعلق بعلاقة الموارد بالحاجات وقد بدت فكرة «الندرة» فى العصور الوسطى سخيفة.
لأن حاجات الناس كانت محدودة.. والآن تكاد تصبح فكرة «الندرة» سخيفة مرة أخرى لأن الموارد زادت إلى حد فاق كل التصورات.. بعبارة أخرى.. كان الإنسان فى العصور الوسطى يقول ويعتقد فعلاُ أن الغنى هو «غنى النفس» وكانت هذه هى طريقته فى القول بأن الماديات لا تهم كثيراً وكان يقول هذا لأن حاجاته كانت محدودة.. والآن يمكن أن يشرع الإنسان فى أن يقول من جديد: أن الغنى هو غنى النفس.. وأن الماديات لا تهم كثيراً لأنه زاد من إنتاجه وسلعة أضعافاً مضاعفة.. واكتشف أنها لم تجلب له ما كان يحلم به من سعادة.. لكن الدكتور جلال أمين يغفل إغفالاً تاماً أمرًا مهمًا يفرض نفسه ويثير التساؤل كما يثير الدهشة فى طرح هذه القضية المعقدة والمتشابكة.. هذا الأمر يتصل اتصالاً مباشرًا أولاً بنوعية الطبقات والشرائح الاجتماعية المستفيدة من الحجم المتعاظم من تلك الموارد.. وتتصل بهذا الأمر نقطتان.. الأولى هى عدالة التوزيع والثانية هى نوعية السلع وعلاقتها بالاستهلاك.. فالملاحظ أنه فى مصر وخلال ثلاثين عاماً ماضية من حكم مبارك هو التزايد المهول فى استيراد سلع استهلاكية لا تهم الأغلبية المتوسطة والفقيرة ولكنها تخلق لديهم كثيرًا من الإحباط.. وكثيرًا من الإحساس بالتمايز الطبقى.. الذى يزداد اتساعاً وتوحشاً.. فما أهمية إذا زيادة الموارد إلى حد فاق كل التصورات.. فى بلد يستورد موارد الغذاء الأساسية.. كما يستورد سلعاً استهلاكية تثير الاستفزاز والسخط بالمليارات كاللبان وغذاء القطط والكلاب.. بينما تزداد الديون وتغلق المصانع.. وتتفاقم العشوائيات.. ويقول فى تقرير نشر بمجلة «روزاليوسف» بعد تسريح 50 % من العمالة.. فى دمياط.. سوق الأثاث جبر أن عاصمة الفن والصناعة والتجارة التى أبهرت العالم على مدار عقود طويلة باعتبارها أبرز مدن صناعة الأثاث.. تحولت إلى مأوى للعاطلين بعد ارتفاع أسعار صرف الدولار.. وتأثير الظروف الاقتصادية للبلاد على أسعار الخامات التى ارتفعت بصورة جنونية.. فضلاً عن سيطرة كبار التجار على السوق.. وإحجام الأهالى عن الشراء بسبب الركود الاقتصادى وارتفاع الأسعار وغياب الرقابة، الأمر الذى كان سببًا فى تحول عدد كبير من الورش خاصة الصغيرة لـ«خرابات»، بينما استسلم أصحابها إلى تغيير النشاط أو الانضمام إلى طابور العاطلين.
يا دكتور أمين.. إن حديثك عن الخوف من انفصال الوحدة التى تربط علم الاقتصاد عن «الأخلاق» نتيجة مشكلة «الندرة» وتأكيدك أنها مشكلة مادية بحتة هو حديث رومانسى لتصورك أن «الفراغ» الناتج عن الوفرة الزائدة عن الحد وعن الاحتياج هو الذى يؤدى إلى شرب الخمر أو الإباحية الجنسية أو الشذوذ الجنسى.. لكن الحقيقة.. كما وردت على لسان صاحب ورشة أثاث «بدمياط» والذى سرح (50 %) من العمالة لديه حيث أكد: «نعانى منذ ثورة (25 يناير) من ارتفاع أسعار الخشب والخامات بنسبة (100 %) دون أدنى رقابة من الجهات المختصة، مما دفع المستوردين ورجال الأعمال إلى السيطرة التامة على الأسواق.. ونقابة صناع الأثاث والغرفة التجارية لا تبحث إلا عن (شو إعلامى) دون تقديم أى خدمة للعامل واقتصر دورها على خدمة طبقة رجال الأعمال التى سيطرت على الأسواق.. واستنزفت دماء المصنع البسيط.. هذا وقد شهدت السنوات الماضية كسادًا كبيرًا.. بالإضافة إلى انتشار المخدرات وخاصة «الهيروين» الذى يباع فى وضح النهار أمام المارة».