
عاطف بشاى
شخصيات لها العجب!
أسعدنى الحظ فكتبت السيناريو والحوار لثلاثة أعمال لأديبنا الكبير «نجيب محفوظ».. الأول فيلم تليفزيونى هو «تحقيق» مأخوذ عن قصة قصيرة بنفس الاسم من مجموعة الجريمة.. ومسلسل «أهل القمة».. ثم رائعته «حضرة المحترم» وكان منتجه قد تعاقد معى لكتابته وهو يتصور أننى سأكتب عملاً فكاهياً هزلياً يصلح لأن يكون مسلسلاً رمضانياً ترفيهياً لتسلية المشاهد ولم يكن يعلم أن الرواية قاتمة ذات مضمون فلسفى عميق وتشمل أحداثاً ذات طبيعة تراجيدية مقبضة وتنتهى نهاية خانقة تتجلى فيها حكمة الموت.. وعبث الوجود.. وأظنه لو علم ذلك ما كان تحمس لإنتاج المسلسل لكنى خدعته.. ووافقته على تصوره ووعدته أننى سوف أضحك الملايين.. ومن خلال سيناريو مليء بالقفشات والإيفيهات والحركات والمواقف الفكاهية.. ذلك أننى كنت تواقاً إلى كتابة سيناريو وحوار تلك الرواية البديعة محتفظاً بأبعادها الفلسفية والإنسانية العميقة.
المدهش فى الأمر أننى لم أخدع المنتج فقط ولكنى خدعت أيضاً الرقيبة المسئولة عن إجازة المسلسل والتى توقفت من خلال الملخص الذى قدمته عند حدود البعد الاجتماعى.. أو الدرس المستفاد من المحتوى الأخلاقى للعمل الذى لا يعدو أن يكون من وجهة نظرها طبعاً متمثلاً فى أهمية مثابرة الفرد وكفاحه من أجل تحقيق آماله وأحلامه فمن جد وجد.
ولم تنتبه إلى البعد الفلسفى العميق المتصل برحلة بحث البطل عن الله واليقين.. ومعنى الوجود والعدم من خلال «عثمان بيومى» الموظف البسيط الفقير الذى ينحدر من أصل وضيع فهو ابن سائق كارو، عانى من شظف العيش ويطمع فى أن يصير مديراً عاماً للمصلحة الحكومية التى يعمل بها.. وهو منذ دخل الإدارة يتطلع إلى المثال القوى القابع وراء المكتب الضخم فى الحجرة الزرقاء المقدسة «حجرة المدير العام».. يحرك الإدارة كلها من وراء «برفان» فى نظام دقيق وتتابع كلى.. يذكر الغافل بالنظام الفلكى وبحكمة السموات.. وتمثل درجة المدير العام لديه مقاماً مقدساً فى الطريق الإلهى اللانهائى.
والحقيقة أن عبقرية نجيب محفوظ تتجلى كأعظم ما تكون فى رسمه المبهر للشخصيات التى يبدعها ويكسبها أبعاداً اجتماعية ونفسية وفلسفية عميقة تتجاوز إطار الحدوتة التقليدية لترسم رؤية بالغة الغور والدلالات.. وتشكل عالماً من الأفكار والقضايا.
قادنى البحث عن سمات تلك الشخصيات إلى الروايات الست التى نشرت لنجيب محفوظ فى النصف الأول من الستينيات والتى حللها «صلاح عيسى» فى كتابه «شخصيات لها العجب» بحذق ومهارة .
إنها شخصيات «سعيد مهران» فى اللص والكلاب وعيسى الدباغ فى «السمان والخريف» وعمرو الحمزاوى فى «الشحاذ» وصابر الرحيمى فى «الطريق» وأنيس زكى فى «ثرثرة فوق النيل» وسرحان البحيرى فى «ميرامار» وهذه النماذج التى التقطها «نجيب محفوظ» من مجتمع يوليو فى مرحلة ما قبل الهزيمة وما بعدها ليس بينهم نموذج يدعو إلى الاحترام أو الثقة، فالذين كانوا يتصدرون المشهد الثورى فى تلك الأيام هم الانتهازيون والهتيفة والخونة.. والمنافقون الذين تنكروا لمبادئهم يبغبغون بالدفاع عن مبادئ لا يؤمنون بها، ويكررون بآلية ومن دون إخلاص حقيقى شعارات تتسلط بها أجهزة الإعلام على عقولهم. إنهم مثلاً يدافعون عن الاشتراكية ويطالبون بالعدل الاجتماعى لكنهم يحلمون سراً بالامتيازات الطبقية، ينددون بالطبقات الرجعية التى قضت عليها الثورة ثم يسعون فى الخفاء للتقرب منها أو مصاهرتها فقد صمتوا رضاء أو كرهاً.. خدع فريق منهم نفسه بأن الثورة لا تزال تعد بالمزيد من الأمل على الرغم من سوء الأحوال.. وأجبر آخرون بسيف المعز أن يصمتوا أو يرضوا بالواقع وفتحت المعتقلات أبوابها لمن أصر على أن يتحدى الصمت ويجهر بمعارضته، سرحان البحيرى بطل رواية «ميرامار» هو الوحيد فى الرواية الذى يمثل الثورة والذى انتهى قبل شهور قليلة من هزيمة (1967 إلى مصير قريب من المصير الذى انتهت إليه فى يونيو من ذلك العام فيما يمكن اعتباره تأكيداً للنبوءة التى أعلنها «نجيب محفوظ» فى ختام روايته «ثرثرة فوق النيل» حين اجتمعت شلة المثقفين المعزولين عما يجرى حولهم فى معتقل العوامة فى سيارة أحدهم وخرجوا لأول مرة إلى دنيا الناس ليصدموا مواطناً مجهولاً فقيراً وشبه عار لا يعرف له أحد اسماً ولا أهلاً لعله الوطن.. أو الشعب.
سرحان البحيرى كان أثناء دراسته فى الجامعة عضواً نشيطاً فى لجنة الطلبة الوفديين بالكلية خلال الشهور الأولى للثورة ومن المعارضين لها لكنه غير اتجاهه بعد ذلك وانضم إلى هيئة التحرير ثم الاتحاد القومى ليستقر أخيراً بلجنة الاتحاد الاشتراكى بشركة الغزل والتى يعمل وكيلاً لحساباتها ثم انتخب عضواً بمجلس إدارتها ممثلاً للعمال وذاع عنه فى الشركة وخارجها أنه شاب ثورى متحمس.
يقول صلاح عيسى فى وصف سرحان أنه نموذج للانتهازى القارح الذى لا يؤمن بالثورة حتى ولو كان من المنتفعين بها لكنه يبالغ فى التظاهر بالحماس لها لكى يتقرب من باشوات العهد البائد.. وأخذوا يوزعون الامتيازات على حواشيهم وذيولهم فكان طبيعياً أن يزدحم شراع الثروة بالهتافين والأرزقية والمنافقين الذين احترفوا الأكل على كل الموائد.
أليس مدهشاً إذاً بعد مرور الوقت على قيام ثورتى (25 يناير، 30 يونيو) أن يبدو نجيب محفوظ وكأنه قد قرأ سطور الحاضر فعاصر وقائع الثورة واستلهم عجائب شخصياتها وتأمل مغزى مصائرهم وعبث ما يسمى «بحكمة التاريخ» ودروسه التى تعيد نفسها وتتكرر.
يقول سمير عبدالباقى صديق عيسى الدباغ الذى فصل معه فى التطهير: كنا طليعة ثورة فأصبحنا حطام ثورة (أصبحا من الفلول بلغتنا الآن).. كيف يكون للحجر دور فى المسرحية وللحشرة دور وللمحكوم عليه فى الجبل دور.. ونحن لا دور لنا؟
يقول له: «عيسى مع أى عمل سنتخذه سنظل بلا عمل.. لأننا بلا دور وهذا هو سر إحساسنا بالنفى كالزائدة الدودية.. وستزداد ضحكاتنا كلما رأينا التاريخ وهو يصناع لنا دون أن نشارك فيه كالأغوات.. أى مصيدة قد وقعنا فيها.. إما نخون الوطن.. أو نخون أنفسنا.. لكنهم فى ثورة (25 يناير) يقررون أن يعملوا.. «سحالى الجبانات» مثلما وصفهم «نجيب سرور».. وحدد مكمن الداء فى انفصالهم الفكرى وثرثرتهم الجوفاء بلغة لا يفهمها المثقفون الحقيقيون.. وهم فى عملهم «كسحالى الجبانات» حنجوريون يشاركون السماسرة وباعة الوهم والمتاجرين بالوطن ولاعبى الثلاث ورقات والبيضة والحجر.. يجلسون القرفصاء أمام الميكروفونات ليبيعوا الشعارات ويحشون كما يقول «نزار قبانى» أفواه الجماهير تبناً وقشاً.. يمدحون كالضفادق.. ويشتمون كالضفادع.. ويبايعون أربابهم فى الصباح بالطبلة والربابة ويأكلونهم حينما تأتى العشية.. أو العكس.. ولهم فى كل مرة ألف تبرير وتبرير.. لكن يظل الواجب المقدس تجاه الوطن هو الدافع والمحرك وبوصلة الإنقاذ لشرف مقصدهم ونبل سعيهم.. إنهم مهرجون ومقاولون وتجار شنطة يستبدلون قناعاً بقناع يتحولون فى فيمتو ثانية من تيار إلى تيار.. ومن مذهب إلى مذهب.. ومن موقف إلى عكسه.. ويغيرون الكرافتات من استديو إلى آخر فى الفضائيات المستباحة.. وهم يلتقون فى «ريش» بين فقرات البرامج ليواصلوا نضالهم العظيم فى المساجلات الفكرية والتطاحن الجدلى الهيجلى.. والتنابز بالألفاظ.. وهم يعانون من تفاقم حالة البارانويا المرضية.. ويدعون خوضهم معارك وهمية وغزوات عنترية مع الآخر.. وأنهم قاب قوسين أو أدنى من المعتقل.. وأنت حينما تسألهم من هو ذلك الآخر المقصود غمز الواحد منهم لك بعينه هامساً بريبة واستنكار: معقولة مش عارف؟!
إنهم يرتجلون البطولة ارتجالاً لكنهم فى حقيقة الأمر مثل قشرة البطيخ تافهون.
لقد ساهموا جميعاً فيما نحن فيه الآن من عدم قدرة الثورة على تحقيق هدف واحد من أهدافها.