الخميس 24 أبريل 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
الكوميديا التى تُبكى

الكوميديا التى تُبكى


مما لا شك فيه أن النشأة التجارية للسينما المصرية قد ساهمت مساهمة كبيرة فى انخفاض المستوى الفكرى والفنى لمعظم الأفلام السينمائية التى أنتجت منذ بداية هذه السينما بشكل عام.. والأفلام الكوميدية بشكل خاص.. ويمكننا أن نؤكد دون إجحاف أو رغبة فى جلد الذات أن عدد الأفلام الكوميدية الجيدة بل التى يمكن أن ينطبق عليها مفهوم أو معنى الكوميديا الحقيقية هو عدد قليل جداً فى تاريخ السينما المصرية كله بالقياس إلى ركام ضخم من الأفلام التافهة المحتوى الهزيلة فى عناصرها الفنية.. الهابطة والرخيصة فى توجهها.. ابتداء من السيناريو السطحى أو الإخراج المتدنى والأداء الذى يجنح إلى التهريج والإسفاف..

السبب الأساسى فى ذلك كما أوردنا هو النشأة التجارية للسينما المصرية التى وضعت نصب أعينها هدفاً واضحاً ومحدداً هو (الترفيه) أو (التسلية) فذلك هو الضمان المريح ومن ثم النجاح الجماهيري.. فأصبحت وظيفة الكوميديا محصورة فى التسرية عن النفس بعد عناء العمل بكل الوسائل التى تبعث على الضحك القائم على الهزار والتريقة والقافية.. والإفيهات الخشنة.. والتلاسن اللفظى الغليظ وحركات الجسد المبتذلة والملابس الغريبة المنفرة.. والسخرية من العاهات والضرب على الأقفية..
ومن هنا وكما يرى الناقد الكبير ( رجاء النقاش) سقط الفيلم المصرى لفترة طويلة فى عيوبه الخطيرة وتكونت له شخصية خاصة كان من أبرز ملامحها ضعف الفكر وتوقفه عند درجة واضحة من التخلف الفكرى مازالت آثارها ظاهرة فى السينما المصرية حتى اليوم.
لقد نشأت السينما المصرية فى جو رأسمالى صرف وتبناها أكبر عقل رأسمالى فى (مصر) فى ذلك الحين.. وهو «طلعت حرب» ومن حوله مجموعة أخرى من صغار الرأسماليين.. ولم تنشأ هذه السينما كما نشأت فى بعض البلاد الأوروبية فى ظل ثورة ذات أفكار محددة واتجاهات واضحة.. وبذلك انعكست هذه الأفكار والاتجاهات على السينما نفسها.. فكانت منذ البداية سينما ذات رسالة ليس هدفها الأول والوحيد هو الربح.. كما كان الأمر فى السينما المصرية.. وأكبر دليل على ذلك أن السينما المصرية فى ظل ما يمكن تسميته (بإنتاج الدولة) أو الإنتاج فى ظل مؤسسة السينما أفرزت فى الستينيات مجموعة من الأفلام خاصة الكوميدية منها ذات مستوى بالغ الرقى والتميز ونخص بها الأفلام التى أخرجها المبدع الكبير «فطين عبدالوهاب» وكتب لها السيناريو والحوار (على الزرقاني) وسعد الدين وهبة.. مثل (زوجتى مدير عام) و(الزوجة 13)..
وفقر الفكر يعنى بطبيعة الحال فقر معنى ومغزى الكوميديا لعدم اعتمادها على بناء درامى شأنها شأن التراجيديا وبالتالى تحتوى على رسم جيد للشخصية بأبعادها الاجتماعية والنفسية وصنع أحداث تحقق عنصرى «المفارقة» و«سوء الفهم».. وصراع ينتج عنه صدام الإرادات.. ومحتوى إجتماعى وسياسى يناقش مشاكل الواقع وقضاياه الملحة.. ويكشف عورات الشخصيات وعيوبها وتعريتها وفضح نواياها.. كما يلقى الضوء على عيوب المجتمع نفسه هادفاً إلى الثورة عليه.. تلك الثورة التى تبدأ بهز وعى المتفرج ومن ثم صدامه مع القوى المؤثرة فى ذلك المجتمع..
إنما تجنح الدراما - أو اللادراما الكوميدية إلى الاعتماد على النماذج أو الأنماط الإنسانية.. (فعلى الكسار) مثلاً كان دائماً يمثل دور البواب الطيب  أو (البربرى الساذج) و(نجيب الريحاني) يقدم نموذج كشكش بك العمدة الساذج التائه فى المدينة والذى يمكن أن تخــدعه أى غانية.. وتســـلب منه أمــواله.. و(فؤاد المهندس) يقدم نموذج الموظف البسيط الذى تقسو عليه الظروف وتسحقه أوضاعه الاجتماعية الضاغطة.. و «محمد عوض» نموذج للتافه أو الغبى أو الأرعن الذى يقع ضحية غفلته.. و«عادل إمام» الذى قدم كثيراً من الأنماط فى مراحل مختلفة من مشواره الفنى الطويل حتى تمكن من تقديم كوميديا حقيقية عميقة المحتوى تحتوى على شخصيات متنوعة تعالج موضوعات تتشابك مع مجتمع يسيطر عليه الظلم الاجتماعى وقهر البسطاء والإنحياز إلى الأثرياء اللصوص مثل (الإرهاب والكباب - المنسى - المشبوه - طيور الظلام - كراكون فى الشارع... إلخ)..
فإذا ما وصلنا إلى «هنيدي» وجيله.. فإننا نكتشف أن محاولات التجديد والاختلاف تنصب فى معظم الأحوال على شكل المعالجات الكوميدية وليس محتواها أو عمق أفكارها.. أو الرغبة الحقيقية فى الارتقاء بمفهوم الكوميديا ورسالة الفنان الكوميدى فى مواجهة مجتمع يعج بالمشاكل الاجتماعية وهموم المواطن وقضايا الساعة.. اللهم إلا التجديد الشكلى الذى يتناسب ومفردات العصر وتغير تفاصيل الحياة المعاشة.. واهتمامات الشباب وميولهم واتجاهاتهم ولغتهم التى تتناسب وحياتهم الجديدة..
وقد حاول «هنيدي» فى بداياته تقديم موضوعات تتصل بمحاولات الشخصية لتجاوز ظروفها الاجتماعية الصعبة من أجل حياة أفضل مثل (صعيدى فى الجامعة الأمريكية - «همام» فى أمستردام - بلية ودماغه العالية.. ألخ) والتى أكسبته جماهيرية ضخمة.. وكانت بداية لظهور جيل جديد من نجوم الكوميديا الجدد كان بعضهم ومنهم (هنيدي) نفسه يقومون بأدوار ثانوية فى أفلام (عادل إمام)..
لكن (هنيدي) فى أفلامه الأخيرة وصولاً إلى فيلم (عنتر بن بن بن شداد) المعروض حالياً فى دور العرض لم يستطع الاحتفاظ بهذه الجماهيرية العريضة حيث تزيل الفيلم قائمة الإيرادات وحصل على المركز قبل الأخير.. وقد شاهدته وسط عدد من المتفرجين لا يزيد على عشرين متفرجاً.. وإذا كان مقياس شباك التذاكر ليس هو المقياس الذى ينبغى أن يعتمد عليه الناقد فى تقييم مدى نجاح الفيلم على اعتبار أن هناك دائماً فجوة بين النجاح الفنى والنجاح الجماهيرى بدليل أن هناك أفلاماً عظيمة فى تاريخ السينما المصرية لم تنجح جماهيرياً كالمومياء مثلاً أو فيلم باب الحديد الذى أبدعه (يوسف شاهين) والذى فشل فشلاً جماهيرياً ذريعاً فى عرضه الأول وكاد المتفرجون أن  يحطموا مقاعد السينما وهم يصيحون باستهجان «سينما أونطه.. هاتو فلوسنا» لكن كارثة فيلم «هنيدي» أن هناك تطابقاً بين الرأى الفنى والرأى الجماهيري.. فمثلما فشل الفيلم فى تحقيق إيرادات كبيرة.. فشل أيضاً فنياً..
يجسد «هنيدي» فى الفيلم شخصية (حشمت) العامل البسيط فى محل أدوات كهربائية يملكه أخوه الأكبر (سعيد) (باسم سمرة) وهو رجل مادى جشع يشاهد بالصدفة أحد البرامج التليفزيونية يتحدث فيه الضيف عن شغفه إلى البحث المستمر عن كل ما تبقى أو ينتمى لأى من رموزنا ونوابغنا وأبطالنا السابقين على مر التاريخ فى مقابل منحهم مكافأة مالية ضخمة جداً.. واعتماداً على التكنولوجيا الحديثة يتوصل (سعيد) إلى فبركة تنجح فى توصيل (حشمت) إلى ما تبقى من سلالة عائلته «عنترة العبسي».. وتنتقل الأحداث إلى مواقعها التاريخية فى الزمان والمكان.. ونعود إلى الماضى فيدور الصراع بين حفيد (ابن شداد) وأسد الرجال (خالد سرحان) حيث يتنافسان على قلب حسناء القبيلة (درة) ويفوز الحفيد.. ويتزوجها وينجب منها ويحصل على المكافأة التى تم وعده بها.. 
للأسف لم يأخذ (هنيدي) من شخصية البطل المغوار والشاعر الذى لا يشق له غبار إلا اسمه..والغريب فى الأمر هنا اختيار التراث إطاراً لأحداث لا يخرج منها المتفرج بدلالات أو أبعاد لها علاقة بهذا التراث بصرف النظر عما إذا كان الشكل أو الإطار العام تراجيديا أو ساخراً وبالتالى فإن الرؤية بدت سطحية.. فالأحداث ملفقة والشخصيات وخاصة شخصية البطل (عنتر) نفسه لا قيمة لها فلا صراع حقيقى تخوض غماره.. ولا قصة حب مستحيلة يعيش عذاباتها وتلهمه أشعار عذبة.. كما أن عناصر الكوميديا منعدمة.. والضحك غائب تماماً.. والسياق الهزلى لا يحتوى على سوء فهم أو مفارقة أو معنى له أهمية اجتماعية مع أن القصة التراثية واسعة الثراء غنية بالإيحاءات ذات الدلالات الاجتماعية والسياسية والفكرية المختلفة..
لذلك فقد جاء أداء (هنيدي) باهتاً بل يبدو غريباً عنه لا يحمل ألقاً يمتاز به ويشعرك كأنه لو استطاع لتخلى عن هذا الدور الذى لا يحبه.. فظهر متقلص الملامح.. متوتراً ساخطاً زاعق النبرات بلا مبرر درامى وغير درامي..
فالحقيقة أن صانعى الفيلم مؤلفاً وكاتباً للسيناريو ومخرجاً لم يسعوا إلى إظهار مجرد النية فى الاجتهاد.. أى اجتهاد فى تصوير فيلم يعجب أحداً.. أى أحد. 