
عاطف بشاى
إهانة الكوميديا فى مسلسلات رمضان
فى ندوة بعنوان «زمن الأضاحيك» نظمها ائتلاف «إنه ضحك كالبكاء» سألنى صحفى متحذلق يدير الندوة:
- هل هناك أزمة فى الكوميديا .. أم أن الكوميديا فى أزمة؟!..
قلت: سيان.. نعم هناك أزمة فى الكوميديا.. ونحن حينما نقرر هذه الحقيقة فنحن بالطبع لا نقصد كوميديا الزغزغة.. وتريقة الجالسين فى المقاهى الذين يحتوى حوارهم على قفشات فجة أو إيفيهات غليظة تمثل نوعاً من التلاسن والتنابز بالألفاظ ومواقف التهريج السطحى التافه التى لا تعالج موضوعاً اجتماعياً أو تطرح قيمة مهمة تستحق التأمل أو النقاش أو تهدف إلى معالجة قضية تهم الناس ولكن نقصد ذلك الفن الراقى الذى يخاطب العقل.. ويتصدى لمشكلة اجتماعية أو سياسية أو فلسفية.. ويتناول أبعادها المختلفة.. ويلقى الضوء على شخصياتها بتكوينهم النفسى المختلف.. ويحدث من خلال أدوات الكوميديا المختلفة من مفارقة وتناقض مواقف تبرز عيوب الشخصيات وتنزع الأقنعة من على الوجوه وتعرى عوراتها وتثير الضحك على علاقاتها.. وصراعاتها مع الشخصيات الأخرى ومع المجتمع.. وتسخر من نقائصها وتدنيها.. وتحدث نوعاً من الصدام بينها.. ذلك الصدام الذى يؤدى إلى هز وعى المتلقى وهدم ثوابته.. ورفض المسلّمات التى يعيش عليها.. تمهيداً وتحفيزاً لتغيير الواقع.. والتى تصل فى أرقى أنواع الكوميديا إلى اختلاطها بالدموع ورثاء الذات والتعبير عن قهر الأيام.. وسوء التفاهم بين البشر.. وعبث الوجود.. وهو ما اصطلح على تسميته بالكوميديا السوداء.
والحقيقة أن أزمة الكوميديا تتبدى لنا الآن فى أن المفارقة الكوميدية التى هى ركيزة الضحك وأهم شروطه أصبحت فى واقع ما يدور حولنا أقوى وأغرب مئات المرات من خيال كتّاب الكوميديا.. والأمثلة على ذلك كثيرة ومتعددة وتتصل بجميع مظاهر حياتنا.. نحصدها من خلال الأحداث الجارية وقراءة الصحف ومتابعة الفضائيات والفيس بوك أبطالها أحياناً أفراد من العامة وأحياناً أخرى من شخصيات فى مراكز مرموقة فى المجتمع.
وللكوميديا أنواع مختلفة منها كوميديا الفكرة.. وكوميديا الشخصيات والأنماط.. وكوميديا التراجيكوميدى.. وهى أرفع أنواع الكوميديا لأنها تمزج بين التراجيديا أو المأساة وبين الكوميديا أو الملهاة.. أى تخاطب العقل والوجدان فى توليفة واحدة.. لكنها فى النهاية تسعى إلى صناعة البهجة.. وإشاعة الفرح بالحياة.. رغم ما فيها من تعاسة وزيف.. أما أسوأ أنواع الكوميديا فهى ولا شك كوميديا العيوب الجسدية والعقلية، أى التى تسخر من العاهات أو التكوين الجسدى أو غياب العقل.. لما تحمله من إساءة أو إهانة واعتداء على كرامة إنسان ليس مسئولاً عما أصابه.. ودونما إدانة للمعتدى طمعاً فى إثارة نوع من الضحك الغليظ الفج.. لذلك فإنه مما يثير الحنق ذلك الربط المجحف بين الكوميديا ومسلسلات الهلس والعبط والإسكتشات الفكاهية التى تعتبر إهانة لفن الكوميديا الذى هو فى الأساس قائم على صدمة فى وعى المتفرج تدعوه إلى إصلاح عيوب مجتمعه وأحياناً الثورة عليه لتغييره.. وللأسف هذا الربط مثلاً بين الكوميديا والإسكتشات الفكاهية يتضح فى كتابات نقاد الصدفة أو العلاقات العامة أو الانطباعات السريعة المريعة.. تعليقاً على مسلسل «لا .. لا .. لاند».. المسروق من السلسلة الأمريكية الشهيرة (Lost) ، حيث تقع طائرة فى مكان معزول فى العالم ويحدث بين أبطالها العديد من المواقف الكوميدية حتى يعودوا إلى مدينتهم مرة أخرى.. والحقيقة أنه لا المواقف كوميدية.. ولا المسلسل برمته ينتمى إلى فن الكوميديا لأنه ببساطة خالٍ من البناء الدرامى الذى يحتوى على أحداث متصاعدة وصراع وذروة درامية.. ولا يعدو أن يكون بضعة اسكتشات لا تقدم موضوعاً مهماً ولا يتناول قضية تهم الناس والمجتمع.. رغم أن وجود مجموعة من البشر مختلفين ومتنافرين فى تركيباتهم ومن ثم سلوكهم النفسى والاجتماعى والأخلاقى يجمعهم مكان واحد معزول توحى دائماً بمضمون اجتماعى أو سياسى أو فكرى قوى كما رأينا مثلاً فى الفيلم الكوميدى البداية «للينين الرملي» والمخرج الكبير «صلاح أبوسيف» أو فى مسرحية «سكة السلامة» تأليف «سعد الدين وهبة».
وينطبق تعليقنا هذا على مسلسل «خلصانة بشياكة» «لأحمد مكي».
المثير للأسى أيضاً ذلك الربط المخزى بين الكوميديا.. وبين ما يسمى «بالإيفيهات» والمصيبة أن هذا الربط يأتى على لسان المؤلفين أنفسهم لهذه الأعمال تبريراً لتفاهة ما يقدمون، فقد أكد مؤلف مسلسل «ريح المدام» بثقة وخيلاء تدعو للدهشة وتشى بجهله تماماً بمعنى الكوميديا، بل بمعنى الفن.. حيث يفخر أن الجمهور سمع إيفيهات جديدة لأنه لا ينقل ما يتم تداوله بين الناس من هزار.. والحقيقة أن المضمون بالغ السطحية.. والمشاهد المتلاحقة فى ترهل تحاول أن تستدر الضحكات بإيفيهات غليظة وحركات خشنة وهزار سمج.. وهذا أيضاً ما يمكن أن يقال عن مسلسل «هربانة منها» بطولة «ياسمين عبدالعزيز» التى أرى أنها فنانة موهوبة وممثلة لم تستطع أن تفجر طاقاتها الإبداعية لجنوحها الدائم إلى الاستعانة بسيناريوهات متهافتة وموضوعات مستهلكة تهدر خلالها إمكانياتها الفنية الجيدة.
أما «عادل إمام» الفنان الكبير المتفرد فى تاريخ الفن المصرى.. والذى صار من خلال رحلة طويلة وعميقة متغلغلاً فى وجدان المصريين وعقولهم ومتربعاً على عرش الكوميديا.. فقد حان الوقت ليعود «عادل إمام» بكل ما يمثله من قيمة فنية كبيرة وقامة إبداعية هائلة تتجاوز الزمن وتتخطى أعمالاً تبقى فى الذاكرة التى لا تحتفظ له إلا بكل ثمين.. وبديع.>