الخميس 24 أبريل 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
المثقفون من المقهى إلى الثورة

المثقفون من المقهى إلى الثورة


كان المثقفون يجلسون على مقاهى المساجلات الفكرية.. والتطاحن الجدلى يحمل الواحد منهم «طن كتب» ويضع إلى جانبه قنينة بيرة وينصحك - كما جاء فى قصيدة (نجيب سرور)، (برتوكولات حكماء ريش) - بعدم الصمت.. حيث الصمت جهالة والثرثرة فضيلة: (وتأخذ سمت الأستاذ: وحذار أن تنسى البايب والكلمات اللاتينية.. وقل فى الواقع واصمت لحظة.. قل لا شك واصمت لحظة.. ثم مقدمة محفوظة فى فذلكة المنهج).
وكان يعيش المفكر على مقهى (ريش) - والعهدة على أحمد فؤاد نجم - محفلط مظفلط.. قليل الفعل.. كثير الكلام.. يطلق الأحكام ويلعن الزمن الكئيب وينعى خواء العالم ومأزق الوجود والعدم وأزمة الضمير الإنسانى.. ويتناجز بالألفاظ.. ويعانى من (البرانويا) وتورم الذات والوساوس القهرية.
لكنه انتفض معبأ ببارود الغضب.. متعمداً فى مياه الجسارة.. اندفع يقتحم وزارة الثقافة قبل ثورة 30 يونيو بأسابيع مرتدياً قفاز الرفض والاحتقار لثقافة الهكسوس وجهالة أهل عهود ظلام وتسحر ودعاة تكفير وكآبة.
أغلق المثقفون وزارة الثقافة بالجنازير فى وجه القبح والتخلف والدمامة.. وأشعلوا مصابيح التنوير والخلق والإبداع.. ورقصوا وغنوا.. وعزفوا للنهر المستباح والوطن الجريح.. ودماء الشهيد ولأن المشكلة لم تكن مشكلة وزير ثقافة ينفذ أجندة نظام يكره الثقافة والفنون ويشيع ثقافة التحريم والتجريم والوصاية والإقصاء والمصادرة.. ويكفر المبدعين والمفكرين فقد تحول الاعتصام إلى قوة دافعة جبارة ضد نظام حكم فاشى يمثل ردة حضارية.. تعود بنا إلى عصور محاكم التفتيش وزمن العصور الوسطى.. فضيقوا علينا الوطن.. وجاءوا يحملون التوكيلات الإلهية لفرض فتاواهم المسمومة وتحريماتهم المفزعة.. واحتكروا كتابة التاريخ.. وتغيير مناهج وعلوم الحضارات ليدونوا أسماءهم فى قوائم المبشرين بدخول الجنة، بدأوا بقتل الكتب وذبح التماثيل.. ليمضوا بنا فى قطارات صدئة إلى «كابول».
وفى كابول المصرية داهم زوار الفجر سوق كتب «النبى دانيال» وسط الإسكندرية.. مدعمين بقوات الأمن المحلية المتمثلة فى شرطة المرافق بقيادة «جنرال» كبير برتبة عميد بالإضافة لفرق الحماية المدنية (الإسعاف والمطافئ) مدججين بالمعدات الثقيلة لإزالة أكشاك الكتب.. وأسفر الاعتداء الغاشم عن ظفر مؤزر بتحطيم تلك الأكشاك ومصرع مئات الكتب فى شتى أنواع المعرفة.. فتناثرت أشلاؤها على الأرصفة.. لقد أتوا بهذا الجيش العرمرم.. واحتشدوا بذلك العتاد الضخم.. متسللين فى الفجر دون سابق إنذار لأنهم يرتعدون خوفاً من عدوهم اللدود.. الكتب التى تبدو وديعة مسالمة لا تنوى شراً.. ولا تضمر كراهية.. لكنها فى غضبتها ضد قوى التخلف والجهل تبقى أقوى وأشد بأساً.. وأعظم هولاً.
لقد كان هجومهم البربرى يعكس جزعاً دفيناً من الثقافة.. والمثقفين.. من الأوراق التى تفضح الاستبداد والسطور التى تندد بالفاشيين.. وصفحات التاريخ التى تنتصر للتنوير وللحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.. وتمهد الطريق للنهضة والتنمية.. الرقى والتقدم.. وتدافع عن حرية الإبداع والتفكير والاعتقاد.. وتقديس العقل.. واحترام المرأة.. والاحتفاء بالفنون.. وهى التى صنعت حضارات إنسانية عظيمة أضاءت الوجود بنور العلم والفكر والمعرفة والفن.. وقاومت تيارات أصولية ظلامية تعود بالبشرية إلى عصور جاهلية.. فى «كابول» المصرية نقبوا تمثال أم كلثوم.. وأطاحوا برأس تمثال عميد الأدب العربى ورائد التنوير «د.طه حسين» فى مسقط رأسه بالمنيا.. وسرقوا تمثاله من فوق قاعدته الهرمية أى أنهم كفروه من جديد بعد ما يقرب من ثمانين عاماً من تكفيره لأول مرة.. بسبب كتاب «فى الشعر الجاهلى» الذى وصفوا مؤلفه بالفسق والفجور والخروج على الآداب القومية والتقاليد الإسلامية.. لكن البراءة جاءته من نائب عمومى مستنير.. وأنصفه القانون.
إن المثقفين قادوا إذن كتيبة التمرد والغضب ليساهموا فى إشعال الثورة الجديدة مؤكدين أن الإبداع لا يموت وثقافة التنوير لا تحتضر وحرية الرأى والفكر لا يمكن لأعداء العقل سحقها وحركة التاريخ تنحاز للمدنية والحداثة والتجديد وحرية الاختلاف والتنوع ولا تنتصر للجهل والجمود والإرهاب والمتاجرة بالدين.
ستظل الحضارة المصرية - لا الهوية الصحراوية - صامدة فى الزمن.. خالدة فى الذاكرة.. بينما يمضى المكفرون والظلاميون وأعداء الثقافة والحرية إلى مزبلة التاريخ.>