الخميس 24 أبريل 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
سيناريوهات «الورش»..ونقاد «العلاقات العامة»

سيناريوهات «الورش»..ونقاد «العلاقات العامة»


استوقفتنى زوجة بواب العمارة التى أقطن بها وطلبت منى - برجاء حار - أن أجد لها حلاً لمشكلتها المستعصية مع زوجها الذى لا يفعل شيئاً فى حياته سوى أن يحصد أول كل شهر ثمرة شقائها فى العمل كخادمة فى شقق العمارة، بالإضافة إلى تنظيفها سيارات السكان.. وتحمل أعباء تربية وتعليم وإطعام أطفالهما الخمسة.. إنه يضربها ويستولى على ما تكسبه وينفقه مع أصدقاء السوء بالمقهى ليلاً.. والتحرش بالشغالات نهاراً.. إنها نموذج مؤلم للمرأة المعيلة البائسة.

 سألتها ما الذى يمكن أن أقوم به لمساعدتها؟!
- قالت بثقة: خده معاك وعلمه لغاية ما يبقى «سيناريجى» «تقصد سيناريست» تضمه إلى «ورشتك» وأهى سبوبة حلوة ولقمة طرية والرزق يحب الخفية وطريقك زراعى يا معلم.. ده بدل ما هو قاعد صايع بيناكف فيا وبياخد عرقى.
ضحكت مؤكداً لها أننى لا أعمل بنظام «الورش» تلك ولا أعترف بها..
دهشت وقالت لى: ليه كده؟!.. أتاريك مش شاطر زى زمايلك اللى الواحد فيهم بيعمل له مسلسلين ثلاثة فى السنة وأديها مية تديك طراوة.. وأقلب اليافطة وأديله ما تريحوش.. وسقع وبيع يا عسل.
قلت لها بضيق وتوتر: هذا ليس من الفن فى شيء.. أن يشترك مجموعة من كتاب السيناريو فى كتابة وصياغة العمل الدرامى برئاسة أو تحت إشراف واحد منهم.. إن فى ذلك اعترافاً غريباً ومخزياً مفاده أن كتابة السيناريو ليست فناً مثل فن الشعر أو النحت أو الموسيقى أو الفن التشكيلى.. وإنما «صنعة» لا إبداع فيها أو خلق أو خيال خاص.. أو أسلوب مميز ينفرد به المبدع.. بل إنها حرفة يمكن تعلمها من خلال بعض التدريبات.. والميكانيكى يمكن أن يكمل عمله ميكانيكى آخر.. والصبى بمرور الأيام يصبح أسطى.. وقد عبر عن رأيه فى ذلك الكاتب الكبير «وحيد حامد» بأن نظام «الورش» ذلك يشبه جلباب «المجذوب» الذى هو خليط من الرقع الملونة فى تنافر لا يحقق اتساقاً أو انسجاماً أو ترابطاً أو منطقاً.. بينما الفن هو الاتساق والانسجام والترابط والجمال والمنطق.
والمفروض أن كاتب السيناريو فنان موهوب مثقف ودارس أكاديمى.. يدرك أن كتابة السيناريو علم وفن وحرفة.. وهو إبداع فردى.. لأن الكاتب ليس مجرد «معد» أو «مترجم» أو «ناقل» لرؤية آخر.. إنما هو مبدع خلاق.. صاحب رؤية وخيال ووجهة نظر.. وأيديولوجية فكرية.. وخبرات اجتماعية.. وثقافة موسوعية.. وطريقة فريدة خاصة به فى رسم الشخصيات وتأليف الأحداث.. وإنشاء الصراع وصياغة أفكاره وأحلامه.. وتصوراته.. وله ذائقة خاصة فى التعبير والطرح.. وأسلوب مميز لا يشبه غيره فى السرد المرئى.. والحوار الدرامى الذى تختلف مفرداته ولغته وبلاغته وبيانه وبديعه عن إبداع فنان آخر.
الغريب فى الأمر أن تلك الأعمال الدرامية التى تكتظ بها الشاشة الرمضانية والتى تعتمد على تلك الورش تجد ترحاباً وتأييداً واستحساناً من السادة النقاد الذين نعانى من تفشيهم تفشى أصحاب الورش.. حتى أصبح لكل ورشة ناقد.. وبالتالى فهم يساهمون فى تدنى المستوى الفنى لتلك الأعمال الدرامية.. ونتيجة لسيطرتهم على وسائل الإعلام اختفى الناقد الحقيقى.. الذى يلقى الضوء على النص الدرامى.. ويحلله فكرياً وسياسياً واجتماعياً ونفسياً وفلسفياً وفنيا.. ويفسر مغزاه ويستخلص منه العبرة والهدف ويفك رموزه.. ويضع يده على مفاتيحه ويكشف ملامح شخوصه وعلاقتهم بهموم الواقع المعاش.. وصراعاتهم المتعددة.. ويكشف منطقية الأحداث وتصاعدها وصولاً إلى الذروة الدرامية.. اختفى الناقد الذى يشتبك مع المؤلف فى الجدل المثمر حول الغرض من الدراما وسلبيات وإيجابيات الحبكة الدرامية بعناصرها المختلفة.
اختفى ذلك الناقد.. وظهر ناقد العلاقات العامة.. وناقد «العمود الانطباعى» والناقد بالصدفة.. والناقد بالإلحاح.. والإكراه.. والناقد الحاقد والشتام (وهو الذى فشل أن يكون مبدعاً فأصبح كارهاً للمؤلف والمخرج والدراما والفن.. والحياة كلها) وتحول إلى ناقد.. فلا عجب إذاً أن ينصرف أمثال هؤلاء النقاد إلى تقييم أداء الممثلين فى مسلسل «لا تطفئ الشمس» مثلاً بمجموعة أكلشيهات من قاموس النقد السريع المريع مثل: تفوق الممثل الفلانى على نفسه فى تأدية الدور.. أو ارتفعت الممثلة العلانية إلى قمة الأداء فى تجسيدها لشخصية فلانة.. ويتجاهلون كارثة تشويه المسلسل لرائعة «إحسان عبدالقدوس» «لا تطفئ الشمس» وتفريغها تماماً من مضمونها السياسى المهم.. وهى الرواية التى كتبها «إحسان عبدالقدوس» فى غمار تأييده لثورة «23 يوليو 1952» منذ بدايتها وحماسه لتوجهاتها الجديدة للتغيير السياسى والاقتصادى والاجتماعى.. والتحول الاشتراكى.. والعدالة الاجتماعية وتذويب الفوارق بين الطبقات من خلال أسرة برجوازية تغير مسار حياتها ومستقبل أفرادها.. ومصيرهم نتيجة هذا التحول الثورى الذى أطاح بثوابت استقرارهم العائلى ونتيجة جهل السيناريست بأحداث تلك المرحلة وأهميتها والعلاقة التبادلية بينها وبين الشخصيات بتركيباتها النفسية المختلفة اتجه إلى تغيير زمن الأحداث إلى الحاضر المعاصر بادعاء التجديد.. لكنه فى الحقيقة أضاع كل الأفكار المهمة التى طرحت فى رواية «إحسان» وحولها إلى علاقات اجتماعية مهلهلة وتافهة بين شخصيات هشة معلقة فى الفراغ بلا جذور ولا انتماءات ولا هموم واضحة أو حقيقية.. فقط تدخل فى تجارب حب لزجة.. وتقليدية ولا قيمة ولا مغزى ولا معنى عام تدور حوله ويسعى المؤلف على طرحه.
وهكذا ارتكب قومندان الورش الدرامية بمساعدة الصبيان هذا المسلسل «ليطفئ الشمس» مع سبق الإصرار والترصد.. وبتأييد جهابذة نقاد العلاقات العامة.