
طارق الشناوي
حدود الوطن وملامح الزعيم
عشنا الأيام الماضية فى ذكرى رحيل «جمال عبدالناصر» وأطل مع ذكراه نفس السؤال: لماذا كانت حدود الوطن فى زمن «عبدالناصر» تساوى ملامح «عبدالناصر».. هل كان الحب أم أنه الخوف.. هل صدق الفنانون الثورة والمنجزات التى ارتبطت بها أم أنهم كانوا مجبرين على التغنى بها؟!
قبل أن أجيبكم أتذكر ما قاله لى الإذاعى الكبير الراحل «جلال معوض» فلقد كان هو صوت «عبدالناصر» لأنه كان دائماً وفى عز سيطرة الإذاعة على عقول ووجدان الناس هو مذيع مصر الرسمى الأول.
قال لى «جلال» أن «عبدالناصر» كان يضج من كثرة الأناشيد التى تتغنى باسمه ولهذا فى أحد الاحتفالات الوطنية لا أتذكر تحديداً إذا كانت السد العالى أم الثورة كانت التنبيهات التى تلقاها «معوض» من «عبدالناصر» شخصياً صارمة وهى أن يطلب من الجميع باعتباره مسئولاً عن حفلات أضواء المدينة ألا يذكروا اسمه.. التزمت «نجاة» و «محرم فؤاد» و«شادية» ثم وآه من «ثم» جاء دور المطرب الكبير «محمد الكحلاوى» الذى كان كعادته يردد عددًا من أغانيه الدينية والبدوية وفجأة غير فى الكلمات وأضاف اسم «عبدالناصر» ومن بعدها فقد «جلال معوض» السيطرة على الحفل وانطلق الجميع مرددين اسم الزعيم!!
لا أتشكك بالتأكيد فى رواية الأستاذ «جلال» ولكنى فقط أتوقف أمام رغبة الزعيم فى الغناء باسمه.. لا أتصور أن «عبدالناصر» كانت لديه اعتراضات بل كان سعيداً بما يجرى وجاءت ذكرى رحيله رقم 42 لأستعيد عددًا من أغانيه عبر الإذاعة والتليفزيون ووجدت نفسى أستمع إلى «أم كلثوم» وهى تغنى على مدى ساعة كاملة «حققنا الآمال برياستك يا جمال بعد الصبر ما طال».. وتعيد وتزيد فى هذه الكلمات الركيكة عشرات المرات ونكتشف أن الذى كتبها هو زجال مصر الأول «بيرم التونسى» والذى لحنها هو عملاق الموسيقى الشرقية «رياض السنباطى» فما هى الشاعرية فى «حققنا الآمال برياستك يا جمال» أو عندما يقول «عبدالفتاح مصطفى» وهو أحد كبار شعراء الأغنية «الزعيم والثورة وفوا بالعهود لسه دور الشعب يوفى بالوعود» إنه يبرئ ساحة رجل واحد ويدين شعبا بأكمله.. بالتأكيد ليست كل الأغنيات التى ردد فيها الشعراء اسم «عبدالناصر» كانت مجرد هراء وخوف من السلطة.. لا يمكن أن أصدق مثلاً أن أغنيات «عبدالحليم» «إحنا الشعب إحنا الشعب اخترناك من قلب الشعب» لـ«صلاح جاهين» و«كمال الطويل» ولا أغنية «يا جمال يا حبيب الملايين» لإسماعيل الحبروك والطويل ولا «أحمد شفيق كامل» وهو يقول «ضربة كانت من معلم خلى الاستعمار يسلم» لا أصدق أنهم كانوا يكذبون.. لدينا بالتأكيد أغنيات عبرت بصدق عن المشاعر الوطنية الجياشة ولم تكن تحت تأثير الخوف من «عبدالناصر» ولكن لو عدت إلى أرشيف الإذاعة سوف تكتشف أن البعض كان يبدأ كتابة اسم «ناصر» أو «جمال» والبحث عن أى وزن وقافية وملأها بمجرد كلمات.. الأهم أن الرئيس نفسه لم يعترض على هذا الإسراف ربما فى لحظة قال كفاية حدث هذا مرة مثلاً ولكن الرئيس أسعدته هذه الأغانى التى تعنى أن الكل يذوب فى واحد!!
عندما سألت الموسيقار الكبير «كمال الطويل» وهو على الأقل صاحب 90٪ مما ردده «عبدالحليم حافظ» من أغنيات وطنية واكبت الثورة أجابنى بأنه لم يشعر ولو للحظة واحدة أنه يلحن لجمال عبدالناصر ولكن للوطن.. انتهت كلمات «الطويل» إلا أننى أضيف أن هناك من غنى بقناعة وهناك من غنى لمسايرة الزفة وما تبقى فقط هى تلك الأغنيات التى قدمت بإحساس وبالتأكيد تحتل أغنيات «الطويل» و «جاهين» و«حليم» النصيب الأكبر من الأغانى الصادقة.. وكما أن أكبر خطيئة ارتكبها الضباط الأحرار هى تعطيل المبدأ السادس للثورة بإقامة حياة ديمقراطية هو الذى دفعنا ثمنه ولا نزال فإن هذه الأغنيات التى ربطت بين حدود الوطن وشخص الرئيس هى التى سيطرت على المشهد الغنائى وتذكروا «محمد العزبى» وهو يغنى للرئيس المخلوع قبل 15 عاماً «اخترناه اخترناه وإحنا معاه لماشاء الله» والغريب أن النظام لم يتغير بالطبع ربما لن تستمع إلى من يغنى لمرسى اخترناه اخترناه وإحنا معاه لما شاء الله إلا أن من قال إن النفاق فقط بالغناء؟!