
طارق الشناوي
رائحة «الفلافل» لا تزال فى أنفى
بين الحين والآخر أفضل أن أنجز مشاويرى الصباحية فى القاهرة سيرا على الأقدام، وفى تلك الأوقات التى تختنق فيها الشوارع وتتكدس السيارات بلا حراك ولكنها ترسل المزيد من السموم للهواء التى جعلت القاهرة مع الأسف واحدة من أكثر مدن العالم تلوثا. فى تلك اللحظة نكتشف أن الخطوة كلها بركة وأن هذه البركة لا تحل إلا إذا كنت تسير على الرصيف مع أسفى الشديد على الحال الذى آلت إليه الأرصفة فى القاهرة!!
كنت قد قرأت دراسة تؤكد أن مخ الإنسان يحتاج بين الحين والآخر إلى تدريبات لياقة وهذا لا يتوافر إلا إذا غيرت طريقة السير.. أى أن عليك أن تبحث عن شوارع جانبية أخرى للوصول إلى بيتك أو محل عملك، وهذا ما فعلته وأنا أسير من منزلى فى حى المنيل الذى يبتعد نحو 30 دقيقة سيرا على الأقدام عن قلب القاهرة، اخترقت شوارع جاردن سيتى الذى كان معروفا قبل ثلاثة عقود من الزمان بحى الأثرياء، حيث صار أثرياء هذه الأيام يفضلون الإقامة فى المدن الجديدة.. اخترقت «جاردن سيتى» وأنا فى طريقى إلى ميدان التحرير وفجأة استوقفتنى رائحة زيت طعمية «فلافل»، انبعثت رائحة الطعمية- أقصد الفلافل- من أحد المحلات بعد أن وجهتنى أنفى إلى مصدر تلك الرائحة، ثم فجأة تذكرت حكاية عمرها أكثر من 30 عاما، إنه نفس المحل الذى كانت تقطن فوقه مباشرة الفنانة الراحلة «فايزة أحمد» وزوجها الموسيقار «محمد سلطان» فى العمارة التى تطل على النيل.. كانت «فايزة» بسبب تلك الرائحة النفاذة قد استصدرت أمرا من محافظ القاهرة بإغلاق المحل أو على أقل تقدير منعه من قلى الطعمية وأخواتها، أقصد طعمية بالبيض أو البسطرمة، وهلم جرا.. وقتها اعتبرتها استغلالا للنفوذ وقطع أرزاق، تساءلت: كيف لفنانة كبيرة أن تستغل اسمها لتغلق محل أكل عيش، وأجريت تحقيقا نشرته على صفحات مجلة «روزاليوسف»، حيث كنت وقتها لا أزال أتدرب، استطلعت فيه رأى الموسيقيين لحجم «محمود الشريف» و«منير مراد» و«أحمد صدقى» قالوا جميعا إن الشعب المصرى فى حاجة إلى قرص الطعمية أكثر من حاجته إلى صوت «فايزة أحمد»، ثم أجريت حوارا مع دكتور أنف وأذن وحنجرة عن التأثير السلبى لرائحة الزيت على الصوت، قال لى: على العكس تماما تلك الرائحة مفيدة جدا للمطرب، فهى تجلى الأحبال الصوتية!!
تراجع المحافظ عن قراره وعاد المحل لقلى الطعمية وغضبت «فايزة» وتوترت العلاقة بيننا ثم صرنا فى سنواتها الأخيرة أصدقاء حتى رحيلها عام .83 سألت نفسى وأنا أتجول بالقرب من بيت «فايزة»: هل حقا الشعوب فى حاجة إلى قرص الطعمية أكثر من صوت «فايزة»؟! نحن نحتاج إلى قرص الطعمية بقدر احتياجنا إلى صوت «فايزة أحمد».. فهى بالنسبة لى الأفضل.. مكانتها فى قلبى مباشرة بعد «أم كلثوم» و«فيروز».. ولماذا إذا وضعت فى كفتى الميزان صوت «فايزة» مقابل «قرص الطعمية».. إنها بالتأكيد قسمة غير عادلة.. تطلعت إلى شرفة «فايزة أحمد» وشعرت أنها تبتسم لى وتسامحنى على تلك المداعبة التى أعترف لكم أنها ثقيلة وسرحت، لماذا قادتنى قدمى بالصدفة إلى بيتها.. هل لا أزال أشعر بالذنب لأننى يوما أغضبتها.. أم ربما لأننى أشعر أن محطات الأغانى الإذاعية والقنوات الفضائية الغنائية فى عالمنا العربى هى التى أذنبت ولا تزال فى حق «فايزة»، ونادرا ما تقدم لنا عبر موجاتها أغانيها، وهى لديها هذا الكنز من الروائع مثل «ست الحبايب» و«حمال الأسية» وأحبه كثيرا كثيرا!!
ربما للسفر سبع فوائد إلا أنه بالتأكيد للمشى فوائد أكثر.. «كثيرا.. كثيرا». بالصدفة اكتشفت أننى أتطلع تحت شرفة فايزة فى يوم ذكراها رقم 29 التى مرت فى هدوء بدون حفاوة تستحقها!!