فرحة المصريين برمضان عبر كل العصور

آلاء شوقي
لشهر رمضان المبارك مكانة عظيمة ومنزلة رفيعة فهو سيد الشهور الذى أنزل فيه القرآن، لذا حث الإسلام على تكريمه، وإحياء لياليه بالعبادة ونهاره بالصيام والصلاة والدعاء والعمل الصالح، وما أن تتم معرفة غرة رمضان، حتى تنهال آلاف الرسائل المختلفة للتهنئة بالشهر الكريم، والمكالمات التى لا حصر لها، لتعلن عن بداية الاحتفال به بين الناس، وما أن يهل أول يوم رمضان، حتى تنتشر الخيام الرمضانية بجميع أشكالها، ومستوياتها.. ليبدأ إحياء الليالى الرمضانية، ناهيك عن الزيارات التى تستمر لثلاثين يوما، وموائد الطعام المتنوعة، وتعليق الزينة والأنوار فى الشوارع، والفوانيس وأغانى (أهلا رمضان، وحوى يا وحوى) فى كل مكان.
لكن يتبادر إلى الأذهان هذا السؤال من أين عرف الشعب المصرى هذه المظاهر للاحتفال؟ وما المتوارث وما الذى اختفى ؟ وما الذى تطور مع الأيام؟ وتبقى الإجابة الأساسية والأهم، أن المصريين يحتفلون بهذه المناسبة كما لم يحتفل أحد بها على مدار العصور الإسلامية المختلفة وحتى الآن.
ويتردد أن أغلب هذه المظاهر متوارثة، من جيل إلى جيل، منذ العصر الفاطمى، حيث بالغ الفاطميون فى الاحتفال بشهر رمضان بشكل لم نسمع به مطلقا فى أى دولة من الدول الإسلامية، وهذا ما يؤكده كل من المؤرخ (إبراهيم عنانى) والدكتور (يسرى العذب) أستاذ الأدب الشعبى بجامعة بنها.
يقول (عنانى) أنه فى عام 155 هـ، خرج أول قـــاضٍ لرؤيــــة هـــلال رمضان وهــو (ابو عبدالرحمن عبدالله بن لهيعة) الذى ولى قضاء مصر، وتبعه بعد ذلك (عدد من القضاة) لرؤيته، حيث كانت تعد لهم (دكة) على سفح جبل المقطم، عرفت (بدكة القضاة) لنظر الأهلة، كذلك بنى قائد العصر الفاطمى (بدر الجمالى) مسجدا له على سفح المقطم، واتخذت مئذنته مرصدا لرؤية هلال رمضان.
وقد شهدت مصر شهر رمضان فى العصر الفاطمى، مظاهر رمضانية ضخمة، يُعهد فيه للقضاة، بالطواف بالمساجد فى القاهرة وباقى الأقاليم، لتتفقد ما تم إجراؤه فيها، من إصلاح وفرش وتعليق المسارج والقناديل، حتى إن الرحالة (ناصر خسرو) الذى زار مصر فى القرن الخامس الهجرى، وصف (الثريا) التى أهداها الخليفة الحاكم بأمر الله إلى مسجد (عمرو بن العاص) بالفسطاط، بأنها تزن سبعة قناطير من الفضة الخالصة، وكان يوقد بها فى ليالى المواسم والأعياد أكثر من 700 قنديل، وكان يفرش بعشر طبقات من الحصير الملون بعضها فوق بعض، وما أن ينتهى شهر رمضان، حتى تعاد تلك الثريا والقناديل إلى أماكن أعدت لحفظها داخل المسجد، كما أن الدولة فى ذلك الوقت كانت تخصص مبلغا من المال، لشراء البخور الهندى والكافور والمسك، الذى يصرف لتلك المساجد فى شهر الصوم.
أما عن الأسواق التى كانت الحركة التجارية بها فى أشد أوجهها ونشاطها خلال شهر رمضان، فيقول (إبراهيم عنانى) : إن (سوق الشماعين بالنحاسين) من أهم الأسواق خلال القرنين الثامن والتاسع الهجرى فهو يمثل موسما عظيما فى شهر رمضان، لشراء الشموع الموكبية، التى تزن الواحدة (عشرة أرطال)، كما كان الأطفال يلتفون حول إحدى الشموع، وبأيديهم الفوانيس، يغنون ويمضون بموكبهم المنير فى الحوارى، من بعد الإفطار حتى صلاة التراويح.
أما عن (سوق الحلاويين) التى كانت تروق رؤيتها فى شهر رمضان، فكانت من أبهج الأسواق، ومن أحسن الأشياء منظرا، حيث كان يصنع فيه من السكر أشكال خيول وسباع وغيرها تسمى (العلاليق).
وهناك أيضا (سوق السمكرية) داخل باب زويلة، التى تمتلئ بأنواع (الياميش) و(قمر الدين)، وكانت وكالة (قوصون) التى ترجع إلى القرن الثامن الهجرى، مقر تجار الشام، الذين ينزلون فيها ببضائع بلاد الشام من الزيت والصابون والفستق والجوز واللوز والخروب.
كما كان يتم عرض أنواع الحلوى مثل (القطايف، الكنافة) ويقال أن الكنافة صنعت خصيصا للخليفة الأموى (سليمان بن عبدالملك)، وللخليفة (معاوية بن أبى سفيان)، كما كانت الكنافة والقطايف موضوع مساجلات بين الشعراء، حيث كان للشاعر (جلال الدين السيوطى) رسالة تحت عنوان (منهل اللطايف فى الكنافة والقطايف).
حقا يا لها من احتفالية فى شهر رمضان، ولم تتوقف مظاهر الاحتفال عند هذا وحسب، بل كانت هناك تقاليد رسمية، فقد كان الخليفة فى مهرجان إعلان حلول شهر رمضان، وحوله الوزراء وخيولهم بسروجها المذهبة، وفى أيديهم الرماح والأسلحة المرصعة بالذهب والفضة والأعلام الحريرية الملونة، وتتقدمهم الموسيقى، ويسير فى هذا الاحتفال جميع فئات الشعب من التجار، وصانعى المعادن والصاغة، وغيرهم من الذين يتنافسون فى إقامة مختلف أنواع الزينة، لإظهار فرحتهم بهذا الشهر الكريم، لتبدو الشوارع والطرقات فى أبهى زينة، وحينما يعود الخليفة إلى القصر، يستقبله المقرئون بتلاوة القرآن الكريم فى مدخل القصر.
وما أن انتقل المذهب من الفاطميين إلى الأيوبيين، الذين أدخلوا على مصر مظهرا جديدا من مظاهر الاحتفال برمضان استمر حتى الآن لكن بشكل أقل، وهو احتفالات رقصة التنورة.
أما فى عصر المماليك فكان الاحتفال بحلول شهر رمضان وعند التحقق من رؤيته تضاء الأنوار على الدكاكين، وفى المآذن، وتضاء المساجد، وقد اهتم سلاطين المماليك بالتوسع فى البر والإحسان طوال الشهر المبارك، وذلك بعتق ثلاثين رقبة بعدد أيام الشهر الكريم، كما كان يصرف للعلماء رواتب إضافية فى شهررمضان، كما اشتهر السلطان برقوق (784هـ-801هـ) أنه اعتاد طوال أيام ملكه أن يذبح فى كل يوم من أيام رمضان خمسا وعشرين بقرة يتصدق بلحومها.
والحال نفسه فى العصر العثمانى.
وفى عام 1216هـ كانت الأوضاع لا تسمح بمظاهر احتفالية، خاصة مع تصاعد المقاومة الشعبية لجيش الاحتلال الفرنسى، ولم تعمل فيه الرؤية على العادة خوفا من بطش العساكر.
وفى العصر الحديث ومع بداية القرن العشرين فى عهد الخديوى «عباس حلمى الثانى» انتقل إثبات رؤية الهلال إلى المحكمة الشرعية بباب الخلق، وشمل مواكب الاحتفال بعض الفرق الرمزية من الجيش والشرطة بموسيقاها المميزة فى تلك الفترة، وزادت على الاحتفالات أن مدافع القلعة تدوى وتطلق الألعاب النارية وتضاء الأسواق والشوارع وجميع القباب والمآذن، وتحيط بهم فرق الإنشاد الدينى، ودراويش الصوفية وتتقدم المواكب فرقة من الجنود، ثم اشتهرت أيضا مهنة المسحراتى فى العصر الحديث.
كما ظهر فى هذا العصر اعتقاد ليلة القدر، حيث اعتقد المصريون حينها أن دليل ليلة القدر هو تحول المالح إلى حلو، حيث كان الأتقياء يجلسون وأمامهم إناء فيه ماء مالح، وبين حين وآخر يتذوقون طعمه ليروا هل أصبح حلوا أم لا؟
فإذا أصبح الماء حلو المذاق يتأكدون أن هذه ليلة القدر.
وبداية مع شهر رمضان فى السبعينيات والثمانينيات وأوائل التسعينيات بدأ التطور المختلف مع تطور المجتمع والحياة، وكان أهم ما ميز تلك الفترة هو مسلسلات رمضان والفوازير، حيث اشتهرت فوازير نيللى وثلاثى أضواء المسرح ثم سمير غانم ثم تبعتها شريهان، ومسلسلات عمو فؤاد وبوجى وطمطم ومسلسل بكار الشهير، ومن هنا بدأت ظاهرة مسلسلات رمضان المنهالة على المشاهد والتى جعلته فى الأونة الأخيرة متسمرا أما التلفاز، خاصة بعد الإفطار.
وأضاف: إن احتفالات رمضان تختلف فى كل مكان وزمان ولكل طبقة من طبقات الشعب، حتى الفقراء لهم عاداتهم فى الاحتفال برمضان، على سبيل المثال فى الريف نجد بعض البيوت مازالت تقيم المساهر، وهى عبارة عن فتح مضيفة أو دار مناسبات لاستقبال الأهل والأقارب لتلاوة القرآن والأحاديث، وإلقاء النكات والمزح والغناء والحكم.
بـ«البمب» أصبحت الصواريخ متعددة الأشكال والأصوات، بل أصبحت مزعجة وخطرا فى بعض الأحيان.