حكاية أسير.. الأسير المُحرر الطيار «كفاح حطاب»: هديتى للرئيس ياسر عرفات كانت حفنة من تراب الوطن "الحلقة 15"

محمد الجزار
فتح الأسير المحرر كابتن طيار «كفاح حطاب»، صندوق ذكرياته وتضحياته، بعد أن أبصر نور الحرية مرة أخرى، عقب سنوات من الأسر فى سجون الكيان الصهيونى الغاصب لأرضه، ليحول تجربته إلى نص أدبى رفيع بعنوان «كفاح كفاح»، يحكى خلاله قسوة المعارك وجحيم المحتل خلف القضبان.
قال «كفاح حطاب» لـ«روزاليوسف»: «ولدت فى مدينة طولكرم، حيث قضيت طفولة شبه عادية، لكنها لم تكن خالية من التأثيرات التى شكّلت وبلورت شخصيتى لاحقًا. قراءاتى فى الصغر، التى كانت تفوق المعدل الطبيعى لطفل فى عمرى، لعبت دورًا محوريًا فى تشكيل وعيى وإدراكى، تأثرت كثيرًا بالإرث الأدبى، وبأساطير الشجاعة والبطولة، وبحب الوطن، وكانت هذه العناصر حاضرة بقوة فى تكوينى النفسى والفكرى، منذ صغرى، راودتنى أمنيتان متناقضتان ظاهريًا، لكن لكلٍّ منهما سحرها وجاذبيتها الخاصة: إما أن أكون طيّارًا، فى قلب التقنية والحداثة، أو أن أكون راعيًا للغنم، حيث السكينة والتأمل فى جمال الطبيعة وملكوت الله».
وتابع: «لم تكن رحلتى فى عالم الطيران خالية من التحديات كفلسطينى، لم أواجه صعوبات شخصية بقدر ما كانت هناك عراقيل أمامنا كطيارين فلسطينيين، وهى مسئولية عظيمة وقعت على عاتق قيادتنا الوطنية، وتحديدًا قيادة حركة فتح التى أنتمى إليها، التى أوفدتنا لدراسة الطيران فى دول صديقة لحركات التحرر منها يوغوسلافيا، التى التحقت فيها بأكاديمية الطيران».
وأوضح «كفاح» أن الصعوبات تضاعفت بعد التخرج، خاصة فيما يخص التطبيق العملى للطيران، لكن بدعم القيادة، وعلى رأسها الأخ ياسر عرفات، تمكّن من التدرب فى سلاح الجو لعدد من الدول الداعمة للقضية الفلسطينية، مثل اليمن، ليبيا، الجزائر، والعراق، وذلك فى ثمانينيات وبداية تسعينيات القرن الماضى.
سافر «كفاح» قبل التحاقه بأكاديمية الطيران اليوغوسلافية، إلى باكستان فى أوائل الثمانينيات لدراسة الدفاع الجوى والسيطرة الجوية (ADWC – Air Defence Weapon Control)، كانت تلك المحطة الأولى فى مسيرته العسكرية خارج الوطن.
وقال إن المرأة بالنسبة له هى كما وصفها ابن عربي: «أجمل إبداعات الخالق العظيم، ولا يكتمل جمال الكون إلا بها». لا أجد وصفًا أبلغ أو أعمق من ذلك. هى الأم، الحبيبة، الزوجة، الأخت، وركن أساسى من أركان الحياة.
وأوضح «حطاب» أن إحدى أبرز ذكرياته هى لقاؤه الأول مع الأخ ياسر عرفات (أبوعمار). حيث عندما غادر الوطن، حمل معه «حفنة من تراب وطني» من طولكرم، لتكون أنيسًا له فى غربته، وعندما سنحت له الفرصة للقاء الأخ أبو عمار، تواصل مع سكرتيرته آنذاك، الأخت أم ناصر، زوجة الشهيد كمال ناصر، وطلبت أن أقدم له هذه الهدية، وحين أخبرتها بأن الهدية هى حفنة من تراب الوطن، ضحكت بفرح وقالت: «هذه أغرب وأجمل هدية سيتلقاها القائد».
وتابع: دخلت عليه، وأديت التحية العسكرية، وقلت له: «أخى القائد، هذه هدية غالية وثمينة على نفسى، أقدّمها لك». فوقف، وقبّل التراب الموضوع فى كيس بلاستيكى شفاف، ثم أخذ إحدى الدروع خلفه، أفرغها من محتواها، وجهّزها بطريقة أنيقة، ووضع التراب بداخلها. بعدها، مرّر الدرع على القيادات الحاضرة، وكان من بينهم أبو الوليد وخالد الحسن وآخرون، فقام كل منهم بتقبيل التراب. كان مشهدًا عاطفيًا وثوريًا بامتياز. ثم كتب ياسر عرفات بخط يده: «تراب فلسطين- منطقة طولكرم»، ووضع الدرع خلفه بشكل بارز».
وواصل: سألنى أبوعمار: «إلى أين أنت ذاهب»؟ فأجبته بأننى بانتظار السفر إلى باكستان للمشاركة فى دورة عسكرية فى مجال الدفاع الجوى والسيطرة الجوية فما كان منه إلا أن طلب منى، بعد انتهاء الدورة، أن أعود للعمل إلى جانبه، وبالفعل، أنهيت دراستى العسكرية فى باكستان، وعدت فى وقت كنت بانتظار دراسة الطيران فى الاتحاد الفيدرالى اليوغوسلافى. لم أتمكن من الالتحاق بشكل دائم بمكتب الأخ أبو عمار، لأننى كنت على وشك السفر مجددًا، وهذه المرة إلى يوغوسلافيا، للالتحاق بأكاديمية الطيران هناك.
تخرج «حطاب» فى الأكاديمية فى العام 1985، كطيار مقاتل، وانتقل مع عدد من زملائه الفلسطينيين للالتحاق بسلاح الجو العراقى، حيث تم تقسيمهم بحسب التخصصات، طياري مقاتلات، طياري نقل، طياري مروحيات، مهندسين، وفنيين.
التحق الأسير المحرر بعدها بسرب النقل الخاص بتنقلات الأخ أبو عمار، وكان قائده الشهيد الطيار محمد درويش، الذى استشهد فى حادث تحطم طائرة الزعيم الفلسطينى فى الصحراء الليبية حادثة لا تزال محفورة فى ذاكرة الكثيرين، وتعرض للاعتقال من سلطات الاحتلال الطيار «كفاح حطاب» بداية عام 2003، خلال الانتفاضة الثانية لمدة وصلت إلى 22 عامًا.
كانت نظرات جنود الاحتلال لـ«كفاح» فى السجن، مزيجًا بين الإعجاب والعدائية، خاصة عندما يعلمون أنه كان أحد الطيارين المكلفين بتنقلات أبو عمار، لأنه بالنسبة لهم، أشبه بكابوس دائم، الأمر الذى كان يفسر له سبب المضايقات والتنكيل الذى كان يتعرض له فى السجن، كوسيلة للانتقام غير المباشر من القائد ياسر عرفات الذى لم يتمكنوا من كسر إرادته أو الحد من تحركاته.
ويروى «كفاح» لـ «روزاليوسف»: «فى بداية الاعتقال، كنت أتعامل مع نفسى كأسير فلسطينى عادى غير أننى لم أكن مرتاحًا داخليًا، وكنت أجهل، مثل كثير من رفاقى، الفجوة القانونية والسياسية فى كيفية تصنيفنا، لم نكن نُعامَل كأسرى حرب، بل كمجرمين، لم يكن الاحتلال يعترف بنا كثوار، بل كخارجين عن القانون. تمت محاكمتنا فى محاكم مدنية، واحتُجزنا فى مصلحة السجون الإسرائيلية، وهى جهة تعنى بالمجرمين، لا بأسرى الحرب».
وتابع: « أدركت هذه الحقيقة المؤلمة صدفة ففى إحدى عمليات «النقل بالبوسطة»، كنت فى باص الأسرى فى طريقى إلى سجن آخر، وكان معنا سجين إسرائيلى يُدعى بن سيلع، مغتصب معروف فى المجتمع الإسرائيلى، شكل هذا اللقاء صدمة لى. أن أكون فى نفس البوسطة، سيارة نقل المساجين، ونُعامل بنفس الطريقة، أنا الذى ناضلت من أجل وطنى، وهو الذى ارتكب جرائم شنيعة بحق أبرياء.. كانت تلك لحظة وعى فارقة، وبدأت منذ تلك اللحظة أرى الأسر بعيون مختلفة. لم أعد أقبل أن أُعامَل كمجرم، وبدأت المطالبة بالاعتراف به كـأسير حرب، وهو ما شكّل بداية تمردى على أنظمة السجن».
وأوضح «حطاب» أن هذا التمرد تسبب فى تعرضه للتنكيل والتعذيب، ودفعه لخوض 34 إضرابًا عن الطعام، مجموع أيامها فاق العام الكامل، وفق دراسات قانونية، أُعدُّ أكثر من خاض إضرابات عن الطعام فى تاريخ الحركة الأسيرة من حيث العدد والمدة، ولو سجل هذا فى موسوعة «جينيس»، لكان اسمى ضمنها.
التقى «كفاح حطاب» خلال فترة الأسر التى امتدت لـ22 عاما بالقائد مروان البرغوثى، الذى ساعده على الالتحاق بالجامعة، والالتحاق ببرنامج الماجستير فى الدراسات الإسرائيلية فى جامعة القدس أبو ديس، والرفيق أحمد سعدات، الأمين العام للجبهة الشعبية، وتشاركت الحياة اليومية مع عدد من قيادات حماس مثل يحيى السنوار، روحى مشتهى، وغيرهم، فى سجن «هداريم».
شجعه القادة مروان البرغوثى، وسعادات، ورفاقه من أمثال ثائر حماد، منصور شريم، أكرم أبو بكر، وراتب حريبات، لتوثيق هذه التجربة وكتابتها لتأكيد أن الأسير الفلسطينى ليس مجرمًا بل مقاتل حرية.
وقال «حطاب» إن كتابه «كفاح كفاح»، شهادة حية على نضال الأسرى وتجربة سياسية وإنسانية بامتياز ونال جائزة المركز الثانى في معرض فلسطين للأدب العالمى الذى عُقد فى العراق نهاية العام الماضى 2024، والآن، تُشرف جامعة بيرزيت على ترجمته إلى اللغة الإنجليزية، لضمان وصول التجربة إلى جمهور عالمى أوسع.
وأوضح الأسير المحرر أنه حافظ على هويته المهنية كطيار رغم غياب أدوات المهنة؛ فكنت دومًا أُسأل عنها من قبل إخوتى الأسرى، مما أبقى ذاكرتى المعرفية حيّة، حاضرة، ومستعدة للإجابة.
اعتبر «كفاح» أن خبر الإفراج عنه لم يكن عاديًا، لأنه جاء فى ظل تعتيم إعلامى تام، فلم يكن يعلم عن الصفقة، ولا عن قوائم المفرج عنهم، إلا لحظة النداء باسم الأسير، موضحا أنه عندما تم نقله من سجن «هداريم» إلى «النقب»، علم أنه مبعد خارج الوطن.
وأوضح الأسير المحرر أن سجن النقب استقبله بالتنكيل والعذابات الجسدية والنفسية، ومقابلات مع ضباط «الشاباك»، الذين أبلغونا رسميًا بقرارات الإبعاد، البعض أُبعد إبعادًا دائمًا، والبعض الآخر إبعادًا مشروطًا بثلاث سنوات، وكان التهديد واضحًا: «أنت تحت المجهر، حتى وأنت خارج الوطن، أيدينا طويلة، وإن قررت أن تزعج الاحتلال، فستطالُك يدنا». كلمات تحمل تهديدًا مبطنًا وصريحًا، أرادوا بها أن أعيش فى المنفى تحت طائلة الرقابة الدائمة، حتى يسمح لى بالعودة بعد ثلاث سنوات هذا إن صدقوا.