أطباء تحت القصف بين المشاعر والمخاطر المنحة و المحنة "3"

سامية صادق
ظل الدكتور عمر، طبيب الأطفال الشاب، لأكثر من عامين ينتظر ردًا من إحدى الجامعات التى يراسلها بألمانيا بشأن منحة الدكتوراه التى طالما حلم بها.
وفى أحد الأيام التى شعر فيها بالضجر والملل من طول الانتظار تلقى البريد الذى كثيرا ما تمنى وصوله.. لقد وافقت ألمانيا على المنحة، مع تغطية كاملة للمصاريف.
لكن فى اليوم نفسه، كانت الأخبار تعج بصور مروعة من غزة حيث الأطفال القتلى والجرحى والبيوت المهدمة والمستشفيات المكتظة.. وأطباء يعملون بلا توقف لإنقاذ الأرواح.
فى ظل إمكانيات مُعدمة ونقص شديد فى الأجهزة والأدوية.. تأثر عمر بشدة وشعر أن واجبه الإنسانى يناديه.. وأنه لا قيمة لأى شهادة أو تقدم علمى فى حياته ما لم يشارك فى إنقاذ أهالى غزة والقيام بواجبه الإنسانى تجاههم كطبيب.. وقرر التقدم بطلب إلى وزارة الصحة المصرية للانضمام إلى فريق الأطباء المتطوعين لعلاج ضحايا الحرب فى غزة.
عندما ذهب لتقديم طلبه، فوجئ بأن هناك أكثر من 2000 طبيب مصرى تقدموا بنفس الطلب.. كان المشهد مؤثرًا، حيث رأى زملاءه من مختلف التخصصات والأعمار يتحدون من أجل هدف واحد: إنقاذ الأرواح ومساندة شعب غزة فى محنته.
وبعد أيام قليلة، تلقى عمر خبرين فى نفس اللحظة: الموافقة على طلبه للسفر إلى غزة، والموافقة النهائية من الجامعة الألمانية التى راسلها لدراسة الدكتوراه.. وكان عليه أن يختار إما أن يسافر إلى غزة فى مهمة إنسانية وإما أن يسافر إلى ألمانيا فى مهمة علمية لكنه اختار غزة.
يصل عمر إلى غزة بصحبة طبيب عظام يُدعى الدكتور «يوسف»، وهو متخصص فى علاج الكسور والإصابات الناتجة عن القصف. كانت المستشفيات هناك تعج بالضحايا، معظمهم من الأطفال.
حيث رأى عمر أطفالًا يعانون من إصابات مروعة: حروق، شظايا، وكسور معقدة. كان الألم فى عيونهم لا يوصف، ورغم ذلك كانوا يتمسكون بالحياة بشجاعة تفوق أعمارهم.
كما كان الدكتور يوسف طبيب العظام يعمل بلا توقف، يعالج الكسور الصعبة التى أصابت الأطفال والكبار على حد سواء. كان يبتكر حلولًا باستخدام الموارد المحدودة المتاحة، ويعمل على تثبيت العظام المكسورة بأدوات بسيطة.
رأى عمر كيف أن الحرب لا تترك أثرًا جسديًا فقط، بل تأثيرها النفسيً أقوى وأخطر.. فشاهد بعينيه كيف أن الأطفال الذين فقدوا أطرافهم كانوا يعانون من صدمة نفسية عميقة، بينما آخرون فقدوا عائلاتهم بالكامل ودخلوا فى حالات من الاكتئاب والصمت.. كان يحاول أن يكون أكثر من مجرد طبيب، فيحاول أن يحتويهم ويتحدث معهم ويشاركهم ألعابهم واهتماماتهم.
وفى أحد الأيام، جاء طفل صغير يُدعى «كريم»، يبلغ من العمر 6 سنوات، وقد فقد ساقه بسبب القصف.
كان كريم يبكى بلا توقف، لكن عمر جلس بجانبه، وأمسك بيده، وقال له: «أنت بطل يا كريم، وسنساعدك لتعود أقوى».
وعمل عمر ويوسف معًا على علاج كريم، حيث قام يوسف بتثبيت الجروح، بينما كان عمر يعتنى بحالته النفسية. بعد أسابيع من العلاج، بدأ كريم يبتسم من جديد بعدما تمكن من المشى على قدميه مرة أخرى وكان ذلك بمثابة انتصار صغير وسط المأساة.
فى إحدى الليالى، تعرض المستشفى الذى يعمل فيه يوسف للقصف.. كان يوسف فى غرفة العمليات يعالج طفلًا صغيرًا، وعندما بدأ القصف، اختبأ الطفل فى صدره من شدة الرعب.. كما احتضن يوسف الطفل بقوة كأنه يريد أن يخبئه بداخله ليحميه، لكن القصف كان عنيفًا واستشهد يوسف وهو يحتضن الطفل بين ذراعيه.
عندما وصل عمر إلى المكان رأى المشهد المروع: يوسف والطفل ملتصقان ببعضهما، كأنهما يرويان قصة التضحية والإنسانية فى أبهى صورها.. كان هذا المشهد نقطة تحول فى حياة عمر، حيث أدرك أن التضحية من أجل الآخرين هى أعظم رسالة يمكن أن يحملها الإنسان.
عاد عمر إلى مصر بعد انتهاء مهمته فى غزة، لكنه لم يعد كما كان. حمل معه قصصًا عن الشجاعة والصمود، وقرر أن يخصص حياته لمساعدة الأطفال فى المناطق المتضررة. وكان كثيرا ما يروى قصة صديقه يوسف طبيب العظام الذى مات ملتصقا بجسد مريضه وهو يحاول أن يخبئه فى صدره ليحميه من القصف.. فكان مثالا لا ينسى في التضحية والإنسانية.