الخميس 16 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

بعد «طوفان الأقصى» استراتيجية جديدة للأرض المحتلة

باغتت المقاومة الفلسطينية عبر عملية «طوفان الأقصى»، التى بدأت فى 7 أكتوبر الجارى (2023)، وما رافقها من مشاهد غير مسبوقة من تغلغل للعناصر الفلسطينية فى الداخل الإسرائيلى والاستيلاء على معدات عسكرية وأسر عسكريين إسرائيليين، الحكومة الإسرائيلية التى تعانى بالأساس من أزمات داخلية تهدد استقرارها؛ إذ كشفت هذه العملية عن حالة الهشاشة والضعف التى يعانى منها الداخل الإسرائيلى، والتى انسحبت إلى المؤسسات الأمنية التى فشلت فى توقع هذا الهجوم. 



وفى تطور نوعى لمشهد «الهجوم التكتيكى» للمقاومة الفلسطينية، جاءت عملية «طوفان الأقصى» لتسجل عددا من الملاحظات الاستراتيجية استنادا إلى خريطة التحركات الميدانية التى رصدت منذ بداية الهجوم والتى تؤكد أن وجهة المقاومة الفلسطينية أصبحت مختلفة الآن وأن الاتجاه المعاكس لاستراتيجية قوات الاحتلال وحلفائها من الغرب قد تختلف الآن.. والأيام المقبلة قد تحمل العديد من المفاجآت على جميع الأصعدة.

تطور ميدانى

بدا لافتا التخطيط المحكم للمقاومة الفلسطينية باستخدام أساليب متنوعة برا وبحرا وجوا فى تنفيذ مخطط معد له مسبقا، ووضع الناطق باسم حماس فى غزة، حازم قاسم، هذه العملية من حيث توقيتها وما حققته حتى اللحظة فى سياق «القدرة الكبيرة للمقاومة على الإبداع فى اختيار التوقيت المناسب والفعل المباشر لأخذ زمام المبادرة».

وقال قاسم فى تصريحات صحفية إن توقيت العملية مرتبط بـ«التكتيكات العسكرية للمقاومة فى سياق الرد الطبيعى على جرائم الاحتلال بحق الأقصى والمسرى، فلم يعد مقبولا السكوت عن المشاهد اليومية لإجرام الاحتلال وقطعان المستوطنين فى القدس وباحات المسجد الأقصى المبارك».

ومن شأن هذه العملية -وفقا لقاسم- أن «تغير من قواعد الاشتباك مع الاحتلال وتفرض قواعد جديدة، بالنظر إلى حجم الإنجازات التى حققتها المقاومة وستتضح تباعا، وحجم الخسائر الكبيرة لدى العدو».

وبالنظر إلى المشهد العملياتى للمقاومة، فثمة تطور بالآليات التى تم عبرها إدارة عملية «طوفان الأقصى»، أبرزها: التحول نحو استراتيجية الهجوم والمباغتة الاستباقية والتحلل من ممارسات «رد الفعل»، واعتماد نظرية «الهجوم العملياتى المزدوج» وذلك لترسيخ مفهوم «انكشاف الردع الإسرائيلى» عبر القصف الجوى بأكثر من 5000 صاروخ بالعديد من المناطق الخاضعة لسلطة الاحتلال وما أعقبه من تحرك برى منظم بالعمق الإسرائيلى، كذلك تنامى «الآلية الاستخباراتية» لدى الفصائل الفلسطينية، وهو ما تم اختباره بسياقات العملية دون كشفها مسبقا من جانب الاستخبارات الإسرائيلية، فضلا عن التنسيق مع أطراف أخرى لتأمين إمدادات السلاح.

ووفق تحليل للدكتورة إيمان زهران المتخصصة فى العلاقات الدولية والأمن الإقليمى بمجلة السياسة الدولية أوضحت أن الاستراتيجية الجديدة للفصائل الفلسطينية قد استندت إلى ما فرضته طبيعة العمليات من تخطيط مسبق لخريطة التحرك وذلك على مستويين الأول: «المستوى الجوى» عبر إطلاق الصواريخ والقذائف بكثافة على مواقع الاستهداف، والثانى: «المستوى البرى» عبر تنظيم عمليات اقتحام منظمة للمستوطنات الإسرائيلية على الغلاف الحدودى، كذلك التطور النوعى فى مدى الصواريخ المستخدمة لتصل قدراتها الفعلية إلى 200 كم لتطول «نهاريا» قرب الحدود الإسرائيلية اللبنانية فى أقصى الشمال وذلك مقارنة بالمدى الصاروخى لعمليات استهداف المقاومة لتل أبيب والقدس المحتلة حيث وصلت إلى 120 كم عام 2012، فضلا عن الاستناد إلى عنصرى «المباغتة» و«المفاجأة» عبر الاستفادة من الخبرات التاريخية لتطور التكتيكات الهجومية للفصائل الفلسطينية منذ عملية «الثأر المقدس» عام 1996 وصولا إلى عملية «طوفان الأقصى».

وقد عمدت المقاومة للتحرك نحو السيطرة - ولو بصورة مؤقتة – واقتحام الأجزاء المهمة داخل مستوطنات غلاف غزة بعمق نحو 40 كم داخل الأراضى المحتلة، فضلا عن تطويق العديد من المواقع الأمنية والعسكرية وتدميرها، بالإضافة إلى استهداف الجنود والمستوطنين وأسرهم، على نحو ما قد ينبئ بانتقال الصراع إلى مرحلة أكثر حيوية يمكن البناء عليها كأوراق للمقايضة سياسيا.

مكاسب جديدة

ورغم ما يواجهه قطاع غزة الآن من هجمات شرسة ووفاة المئات من الضحايا خلال هجمات قوات الاحتلال الإسرائيلى وعزل كامل للقطاع مع قطع الكهرباء والمياه وعدم توفر مرر آمن لوصول المعونات لأهالى القطاع، من جهة أخرى تحاول إسرائيل حشد أكبر دعم دولى ممكن تقف فى مقدمته الولايات المتحدة الأمريكية، لمنحها غطاء سياسيا دوليا للاستفراد بغزة ومقاومتها، فإنه ليس من الواضح ما إذا كانت ستقدم على اجتياح برى لغزة أم لا فى الساعات المقبلة، مع بقائه خيارا مرا ولكن ضروريا بالنسبة لها، لا سيما مع الكلفة الباهظة المتوقعة لخيار من هذا النوع عليها، عسكريا وبشريا وبالتالى سياسيا واقتصاديا.

كما أنه ليس من الواضح إلى أى مدى سيكون للمواجهة الحالية أبعاد إقليمية. صحيح أن المعركة بدأت فى المقام الأول لأسباب محلية  متعلقة بالانتهاكات فى المسجد الأقصى وحصار غزة وغيرها من الملفات، إلا أن حجم المعركة واحتمالات تطورها تحمل بالتأكيد بذرة الانتقال لأبعاد إقليمية. ومن هذه الزاوية ترصد قوات الاحتلال قصف حزب الله اللبنانى لمزارع شبعا فى «رسالة تضامنية» مع المقاومة الفلسطينية.

رغم كل ما سبق، وبغض النظر عن المسارات المستقبلية والمآلات النهائية للمواجهة الحالية، فإنها قد حققت للفلسطينيين ومقاومتهم عدة مكاسب استراتيجية لن تتغير ولن تؤثر فيها التفاصيل اللاحقة، أهمها ثلاثة.

المكسب الاستراتيجى الأول

هو كسر هيبة دولة الاحتلال ومؤسساتها العسكرية والأمنية بشكل غير مسبوق وكسر أسطورة الجيش الذى لا يقهر إن مباغتة المقاومة الفلسطينية وتفوقها الملحوظ وإنجازاتها البادية ولا سيما العدد الكبير من القتلى والأسرى «الإسرائيليين» ومشاهد المواجهات المباشرة بين المقاومين والجنود قد أنتجت صورة من الصعب ترميمها بالنسبة لدولة الاحتلال فى السنوات القليلة القادمة.

 المكسب الإستراتيجى الثانى

يرتبط بمصير مستوطنات غلاف غزة على المدى البعيد. ذلك أن ما شهدته هذه المستوطنات من مواجهات وخبرة المستوطنين بشكل فردى ومباشر من ضعف وفشل لأجهزتهم فى حمايتهم سيدفعهم للزهد فى العودة لها حتى ولو انتهى الحدث الأمنى وبعد  انتهاء المعركة الحالية. إن أحد النتائج المتوقعة لمعركة طوفان الأقصى ألا تعود تلك المستوطنات لحالتها السابقة وربما تفكيكها عمليا وإن لم يحصل ذلك على شكل إعلان رسمى وتنفيذ مباشر من الدولة، وهو ما يشبه من زاوية ما تفكيك المستوطنات داخل القطاع بعد الانسحاب منه.

أما البديل لذلك فهو العمل على استبقاء عدد من المستوطنين فيها مع تخصيص مصادر كبيرة وبالتالى مرهقة عسكريا وأمنيا واقتصاديا لمحاولة طمأنتهم وإبقائهم فيها.

المكسب الإستراتيجى الثالث

يتعلق بملف الأسرى. فقد عرضت المقاومة الفلسطينية مرارا عقد صفقة تبادل أسرى مع الاحتلال عبر وسطاء دون أن تجد تجاوبا. الآن، وفى يد المقاومة الفلسطينية عشرات الأسرى لم يعد ممكناُ لأى حكومة «إسرائيلية» تجنب عقد الصفقة وبما يرضى المقاومة الفلسطينية وبـ«تنازلات» صعبة على الاحتلال، إذ إنه لن يكون بمقدورها تجنب الضغوط الداخلية عليها لاسترداد هذا العدد الكبير من الأسرى.

فى المحصلة، أخيرا، فإن معركة طوفان الأقصى قد أظهرت عزما وتصميما وتخطيطا وتنفيذا فاق كل التوقعات من جانب المقاومة الفلسطينية، أظهر أنها كانت فى حالة إعداد منذ مدة طويلة، وقد استطاعت الأخيرة تحقيق انتصار لن يمكن لأى حكومة «إسرائيلية» حالية أو قادمة تجنب التعامل مع تبعاتها.

وبغض النظر عن مآلات هذه المواجهة وكيف ومتى ستنتهى، وبغض النظر عما يمكن أن تسببه للمستوى السياسى فى دولة الاحتلال بما فى ذلك احتمالات إسقاط الحكومة وإنهاء المسيرة السياسية لبعض القيادات وفى مقدمتهم نتنياهو، إلا أنها فى الساعات الأولى فقط حققت مكتسبات ذات طابع إستراتيجى لن يكون من السهل تخطيها أو عكسها مهما كانت تفاصيل المستقبل القريب.