فى ذكرى اغتياله.. نحيى أفكاره: فرج فودة.. من قال لا فى وجه «طيور الظلام»

عبدالله رامى
فى زمن اشتد فيه عصف الظلام، وتراكم فيه الغبار على نوافذ الفكر، خرج فرج فودة كمن يحمل شعلة لا تخشى الريح، وقلمًا لا يخجل من قول الحق.
لم يكن مجرد مفكر؛ بل كان ضميرًا حيًّا، وسيفًا مصلتًا على رقاب التزوير باسم الدين.
وُلد فرج فودة فى 20 أغسطس 1945 بدمياط، وعاش حياة عقل لا يعرف السكون. درس الزراعة وحصل على الدكتوراه فى الاقتصاد الزراعى، لكنه اختار أن يزرع فى العقل لا الأرض، وأن يحرث فى التقاليد الصلبة، ويغرس أسئلة مزعجة فى حقلٍ اعتاد الطاعة والامتثال.
«المعركة معركة عقل»، قالها فودة، فاختصر بها موقفه من التيارات التى ترفع المصحف وتُخفى خلفه سكينًا. كان يكتب لا بدافع الخصومة؛ بل من منطلق إنقاذ وطن اختُطف من قِبَل تجار العقيدة. فى كتابه الشهير «الحقيقة الغائبة» (1984)، واجه خطاب الجماعات الإسلامية بردٍّ عقلانى موثق بالتاريخ:
«إننا لا نكره الدين؛ بل نكره من يتاجرون به... من يحولون الدين إلى وسيلة للسلطة». لم يكن «فودة» يخشى الاتهام بالكفر؛ بل كان يسخر من فراغ الاتهام نفسه. فى كتابه «قبل السقوط» كتب:
«الكافر هو من يعطل عقله، لا من يُفَعّله؛ من يقبل أن يُقاد كالقطيع، لا من يسأل: لماذا؟».
رفض محاولات إعادة الخلافة، لا لأنها فكرة دينية؛ بل لأنها وهْمٌ سياسى يغطى على مشكلات الواقع. رأى فى مشروع «الدولة الإسلامية» محاولة للفرار من الحاضر لا لمواجهته. ولذلك قال فى مناظرته الشهيرة قبل اغتياله بأسابيع:
«أنتم لا تقدمون حلًا؛ بل تلوذون بالماضى لأنكم تعجزون عن صياغة المستقبل».
مواجهة بلا دروع
كان فرج فودة خصمًا فكريًا شرسًا، لا يُهادن ولا يُجامل. خاض معارك ضد جماعة الإخوان المسلمين، وانتقد «تحالفات الانتهاز» بين الأحزاب السياسية والتيارات الدينية. استقال من حزب الوفد حين تقرّب من الإخوان فى الثمانينيات، معتبرًا أن هذه الخطوة خيانة للعقلانية الليبرالية التى قام عليها الحزب.
وكتب فى مقالة شهيرة بمجلة «أكتوبر»:
«لا قيمة لحزبٍ يستبدل عقله بسبحة، ولا معنى لسياسة تسير خلف عمامة».
ومن أشهَر كتبه «حوار حول العلمانية»؛ حيث أعاد تعريف العلمانية كضمانة للحرية الدينية، وليس عدوًا لها. قال:
«العلمانية ليست إلحادًا؛ بل هى الكف عن استخدام الدين كسوط».
تشخيص للمجتمع
امتلك فرج فودة عينًا تشريحية، يرى بها أمراض المجتمع المصرى فى عمقها البنيوى، لا فى أعراضها فقط. رأى كيف يتسلل الخطاب الدينى إلى المدارس والإعلام؛ ليُنتج أجيالًا تخشى التفكير وتهاب السؤال. كتب فى «النذير»:
«بدأ الغزو الفكرى حين جلس الخطيب على عرش المُعلم، وحين صارت الحصة تبدأ بالدعاء وتنتهى بالتحريض».
وانتقد خطاب السلطة الذى يهادن التطرف، فكتب:
«ليس الخطر فى المتطرفين وحدهم؛ بل فى النظام الذى يصافحهم فى النهار، ويتظاهر بمقاومتهم فى الليل».
كما سلّط الضوء على تسييس القضاء، وميوعة الخطاب الثقافى، وانهيار منظومة التعليم، ووصفها بأنها «آلة لإنتاج الطاعة».
اغتيال الجسد وانتصار الفكرة
فى 8 يونيو 1992، اغتيل فرج فودة أمام مكتبه بمدينة نصر، بعد فتوى أزهريين بتكفيره. لم يكن القاتل قارئًا له؛ بل نُفّذ فيه التحريض لا الحكم. فى المحكمة قال القاتل إنه لم يقرأ لفودة حرفًا، فقط سمع أنه «كافر». وكأن فودة كان يكتب عن قاتله قبل أن يعرفه، حين قال: «الخطر ليس فى الجهل وحده؛ بل فى الجهل المقدس».
رثاه الناس فى صمت، وتجاهلته الدولةرسميًا-وقتها- وكأن صوته كان عبئًا حتى بعد رحيله. لكنّ قُرّاءه بقوا، يعيدون قراءة كلماته، لا كذكرى؛ بل كحقيقة راهنة.
صوت لا يموت
اليوم، وأكثر من ثلاثة عقود على اغتياله، يعود اسم فرج فودة فى كل مرة يُطرح فيها سؤال الحرية، أو يُلوّح بخطر التكفير. لم يُهزم؛ بل صار رمزًا.
فقد أثبت التاريخ أن من يُقتل من أجل فكرته، غالبًا ما ينتصر، لا بالدم؛ بل بالكلمة.
أو كما كتب فى إحدى مقالاته الأخيرة:
«يموت الجسد، وتبقى الفكرة إذا كانت عادلة. والفكرة التى تُخيف قاتلها؛ أقوى من أى جيش».
هذا هو فرج فودة، الحاضر فى غيابه، الذى تَحَوَّلَ اغتياله إلى إدانة مستمرة لمجتمع اختطفته طيور الظلام. لكنه تَحَوَّلَ أيضًا إلى مَشعل لا ينطفئ، فى درب من لا يزالون يؤمنون بأن الحرية تبدأ من العقل، وأن الوطن لا يبنى إلا على أسئلة تجرؤ أن تُقال.