
أحمد إمبابى
الدير فى حِمَى الدولة «سانت كاترين».. قدسية دينية فريدة وتعاقد «أبدى لن يُمَس»
من المهم التفرقة بين ثلاثة أبعاد مهمة، عند النظر لوضعية «دير سانت كاترين» الفريد، فى محافظة جنوب سيناء، بعد ما أثير حول الحكم القضائى الصادر أخيرًا بشأن الموقف القانونى للأرض المُقام عليها الدير منذ قرون، البُعد الأول؛ يتعلق بالتزام الدولة المصرية بالحفاظ على رمزية ومكانة الدير الروحية والدينية، والثانى يرتبط بعقيدة الدولة المصرية الراسخة، بشأن احترام المقدسات والتعددية الدينية، والثالث؛ مَعنىٌّ بأهمية الشراكة الاستراتيجية المهمة بين مصر واليونان.
والواقع؛ أن تأطير تلك الأبعاد، مسألة ضرورية؛ للفهم الموضوعى لقضية الدير، بعيدًا عن أية تأويلات أو تفسيرات بعيدة عن الواقع، إلى جانب تفسير رسالة الدولة المصرية الثابتة والواضحة، التى تؤكد فيها على «الالتزام بحماية الدير، والحفاظ على مكانته الدينية الفريدة، وعدم المساس بها».
تلك كانت المعانى، التى أكد عليها بيان رئاسة الجمهورية، الصادر الأسبوع الماضى، ليس فقط للتأكيد على الالتزام الكامل بالحفاظ على مكانة دير سانت كاترين المقدسة؛ وإنما أيضًا للتشديد على حرص القاهرة على شراكتها وعلاقاتها الوثيقة مع أثينا، وعدم المَساس بها، بحكم انتماء الدير للكنيسة الأرثوذكسية اليونانية، وهذه الرسالة لم تكن الوحيدة؛ بل سبقتها وتبعتها تأكيدات بنفس المعنى من القيادة السياسية.
لماذا كل هذا الجدل؟
والواقع؛ أن الجدل المُثار بشأن دير سانت كاترين، لم يرتبط بالحكم القضائى الصادر مؤخرًا من محكمة القضاء الإدارى، بشأن الوضعية القانونية لأرض الدير؛ وإنما سبق ذلك بعدة أشهُر تداول مغالطات أخرى بشأن الدير، من بينها حديث غير صحيح، عن «وجود مخططات لإخلاء دير سانت كاترين، تزامنًا مع تطوير المنطقة»، وهو ما دفع مجلس الوزراء، فى بداية شهر نوفمبر الماضى، بنفى تلك الأحاديث المتداولة على منصات التواصل الاجتماعى، وشدّد- فى بيان للمركز الإعلامى وقتها- على أن «الدير يعمل بشكل طبيعى، دون وجود أى مخططات لإخلائه».
وربما التأكيدات الحكومية، لم تحسم نهائيًا الجدل بشأن الدير، فى ظل استمرار التقاضى، حول مِلْكية بعض الأراضى المحيطة بالدير والتى تقع داخل محميات طبيعية، إلى أن صدر حكم قضائى من محكمة استئناف الإسماعيلية، فى 28 مايو 2025، قضى بأن «مِلكية دير سانت كاترين، والمواقع الدينية والأثرية المحيطة به، تعود للدولة المصرية، باعتبارها من الأملاك العامة، مع الحفاظ على عقود حق الانتفاع الخاصة بالدير»، كما فصل الحكم القضائى فى موقف بعض الأراضى المحيطة بالدير، وأكد على أنها «مناطق محمية تتبع الدولة، ولا يجوز التصرف فيها أو امتلاكها بالتقادم».
الممتلكات العامة والسيادة
وإذا كان الحكم القضائى أثار مخاوف لدى أساقفة الدير؛ خصوصًا ما التفسيرات التى زعمت أن فى الحكم مُصادرة للدير والأراضى التابعة له؛ إلا أن واقع الأمر، أن ذلك الحكم قد أنهى نزاعًا قضائيًا قائمًا منذ فترة بين محافظة جنوب سيناء، ودير سانت كاترين، وبالنظر لصيغة الحكم الصادر، نجد أنها تؤكد على أمرين أساسيين، هما:
- الأول؛ أحقية الدير، فى الانتفاع بالأرض التى يشغلها منذ مئات السنين، وفى ذلك، إقرار بالحفاظ على المكانة الدينية والتاريخية وقدسية الدير.
- والثانى؛ التأكيد على أن أرض الدير أثرية، كونها مسجلة ضمن قائمة التراث العالمى، بمنظمة اليونسكو، وبالتالى لا يجوز تملكها، ولكن يجوز الانتفاع بها، وهو ما يتسق مع صحيح القانون المصرى.
وبالتالى يُفرِّق الحكم القضائى بين، الوضعية القانونية والتاريخية للدير، وبين مِلكية الأرض المُقام عليها، كونها من الممتلكات العامة، التابعة للدولة المصرية، وهو تأكيد على مسألة السيادة المصرية على أراضيها، مع احترام المقدسات الدينية الفريدة.
قدسية فريدة لسانت كاترين
ويشتهر دير سانت كاترين، بكونه من أقدم الأديرة التى بُنيت فى القرون الأولى، وتحديدًا من القرن الرابع إلى السادس الميلادى؛ حيث أمر ببنائه الإمبراطور البيزنطى جستنيان الأول لإيواء الرهبان الذين كانوا يعيشون فى شبه جزيرة سيناء- حسب بيانات وزارة السياحة المصرية.
ويتميز الدير بموقعه الفريد، على سفح جبل سيناء؛ حيث تلقى سيدنا موسى الوصايا العشر من الله، وبجانب مكانته الأثرية المهمة، يحظى الدير بمكانة دينية فريدة؛ حيث يمثل نقطة التقاء فريدة بين الديانات السماوية الثلاث، وتقدسه الطوائف المسيحية الشرقية والغربية على حد سواء، وجرى تسجيل الدير، على قائمة التراث العالمى، عام 2002.
دينيًا؛ يتبع دير سانت كاترين، الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية، وتحديدًا بطريركية الروم الأرثوذكس فى القدس، وهى كنيسة ذات جذور يونانية، ومعظم رهبان الدير هم من الرهبان اليونانيين، ويتحدثون اللغة اليونانية؛ حيث يدير الدير، المُطران «ديمتريوس ديميانيوس»، وهو يونانى الجنسية.
رسالة القيادة المصرية
واستدعى انخراط الحكومة اليونانية، فى قضية الدير، إعادة الدولة المصرية التأكيد على موقفها الخاص بحماية الدير وقدسيته، من خلال بيان رئاسة الجمهورية الصادر مساء الخميس 29 مايو الماضى؛ ليؤكد على «التزام مصر الكامل بالحفاظ على المكانة الدينية الفريدة والمقدسة، لدير سانت كاترين، وعدم المساس بهذه المكانة»، كما أكد البيان على أن «الحكم القضائى أخيرًا، يرسّخ هذه المكانة، كما يتسق مع تأكيدات الرئيس عبدالفتاح السيسي، خلال زيارته لأثينا يوم 7 مايو الماضى، بشأن حماية الدير والحفاظ على مكانته الدينية الفريدة».
والواقع؛ أن بيان الرئاسة المصرية، لم يكن الرسالة الوحيدة؛ بل سبقته وتبعته أيضًا تأكيدات من الدولة المصرية، لتؤكد على نفس الالتزام الراسخ، وهو ما جرى خلال اتصال هاتفى جمع الرئيس السيسي، ورئيس وزراء اليونان، كيرياكوس ميتسوتاكيس، الجمعة 30 مايو الماضى؛ حيث أكد خلاله الرئيس على أن «الحكم القضائى الصادر، يتسق مع حرص مصر، على الأماكن الدينية والكنسية، وتأكيد القيمة التراثية والروحية والمكانة الدينية الفريدة، لدير سانت كاترين».
رسائل أثينا
ولم تكن هذه المَرّة الأولى التى تطرح فيها قضية الدير بشكل رسمى بين مسئولى البلدين، فخلال زيارة الرئيس السيسي، لأثينا الأخيرة، حرص الرئيس السيسي، على توضيح بعض النقاط المَعنية بوضعية دير سانت كاترين، بعد ما طرح رئيس الوزراء اليونانى القضية، ووقتها تحدّث فى المؤتمر الصحفى المشترك، وقال إنه «ينزعج بشدة عند سماع ما يتردد بأن مصر يمكن أن تقوم بإجراء سلبى تجاه الدير»، وأضاف إن «هذا يتعارض مع ثوابت مصر وتسامحها».
وشدّد السيسي- وقتها- على أن «مصر خلال العشر سنوات الماضية، دائمًا ما تؤكد على احترام شديد للتعدد والتنوع الموجود فى النسيج الإنسانى»، وأكد وقتها أيضًا على «التزام مصر بالتعاقد ما بين الدير والدولة»، وقال إنه «تعاقُد أبدىٌّ لن يُمَس»؛ خصوصًا أن الدير يحتضن رفات قديسة عظيمة.
وهنا نتوقف أمام رسالة أكد عليها أيضًًا الرئيس السيسي، حينما أشار إلى أنه «حرص على توضيح موقف دير سانت كاترين، بنفسه، وبشكل مباشر؛ لدحض الأقاويل المغرضة».
تقنين وضعية الدير
ولم تكتفِ مصرُ توضيح التزامها الراسخ بشأن الدير، للجانب اليونانى فقط؛ حيث بعثت بنفس الرسالة إلى الدول الأوروبية، من خلال لقاء لوزير الخارجية بدر عبدالعاطى، مع سفراء الدول الأوروبية المعتمدين بالقاهرة، الجمعة 30 مايو الماضى، وخلال اللقاء أكد على أن «الحكم القضائى الصادر بشأن الأراضى المحيطة بالدير، يعد المرة الأولى التى يتم فيها الحفاظ على وضعية الدير القانونية، ويؤكد على مكانته المقدسة».
وأشار عبدالعاطى، إلى أن الحكم القضائى يحافظ على القيمة الروحية والمكانة الدينية الرفيعة للدير، وأقر باستمرار السماح لرهبان الدير بالانتفاع به وبالمناطق الدينية والأثرية بالمنطقة، وقال إنه سيجرى العمل على التوصل إلى اتفاق لتسوية الأوضاع بين السُّلطات المَحلية ودير سانت كاترين.
تعاون وتنسيق لتطوير المنطقة
وإلى جانب الالتزام المصرى الرسمى، بحماية الدير، نجد أن الممارسة العملية من المؤسَّسات المصرية، تستهدف حماية قدسية الدير، والعمل على تطويرها؛ لتكون مزارًا سياحيًا عالميًا، يعكس تفردها، ولعل الشاهد على ذلك، قيام محافظ جنوب سيناء، الدكتور خالد مبارك، فى شهر نوفمبر الماضى، بزيارة المطران ديمتريوس ديميانيوس»، مطران دير سانت كاترين، فى مقر إقامته بأثينا.
ووفق ما خرج عن محافظة جنوب سيناء عن هذا اللقاء، أنه تم التأكيد على التعاون المستمر ما بين المحافظة والدير، إلى جانب الحديث عن الجهود المبذولة لحماية التُراث الدينى والثقافى للدير، باعتباره رمزًا دينيًا وتاريخيًا مُهمًا، ويأتى ذلك ضمن مساعى تطوير منطقة «سانت كاترين» بالكامل؛ بهدف إبراز هذه البقعة المُقدسة بأبهَى صورة؛ تقديرًا لقيمتها الروحية كأرض «التجلى الأعظم»، وتحويلها إلى مزار سياحى عالمى يعكس تفردها.
بناء وترميم الكنائس
وبعيدًا عن الموقف المصرى الواضح والثابت، بشأن حماية دير سانت كاترين؛ فإن مبدأ الدولة المصرية، بشأن احترام التعدد الدينى، وبناء وترميم الكنائس، لا يمكن المزايدة عليه، وهذا البُعد الثانى فى تلك القضية، ذلك أن الدولة المصرية، على مدى السنوات العشر الماضية، دأبت على ترسيخ مبدأ المواطنة، عبر مجموعة من الممارسات المهمة، أبرزها إعادة ترميم الكنائس، مع بناء كنائس جديدة فى المدن الجديدة.
وهنا نشير إلى حديث الرئيس السيسي، فى أثينا، إلى أن الدولة المصرية، قامت بإعادة بناء وترميم 65 كنيسة، تعرضت للحرق، من قِبَل المتطرفين بعد ثورة 30 يونيو، إلى جانب الحرص على بناء كنائس فى كل حى.
وما يعزّز ذلك؛ خطوة إصدار قانون بناء وترميم الكنائس عام 2016؛ تنفيذًا للنّص الدستورى المنصوص عليه فى دستور 2014، وشرّع هذا القانون، ترخيص الكنائس والمبانى التابعة لها.
ومنذ تطبيق هذا القانون، وافقت الحكومة المصرية، على توفيق أوضاع نحو 3453 كنيسة ومبنى تابعًا، حسب بيانات مجلس الوزراء، الصادرة فى شهر أكتوبر الماضى.
الشراكة الاستراتيجية مع اليونان
وفيما يتعلق ببُعد العلاقات «المصرية- اليونانية»، فالرسالة المصرية واضحة هنا، حينما أكد الرئيس السيسي خلال زيارته لأثينا، على أنه «لا يريد ولن يسمح بالعبث فى العلاقات مع اليونان»، وهو تأكيد تزامَن مع توقيع الرئيس السيسي مع رئيس وزراء اليونان، على إعلان الشراكة الاستراتيجية بين البلدين؛ لرفع مستوى التعاون والعلاقات المشتركة؛ لتشمل مختلف المجالات.
فى الوقت نفسه؛ هناك تقديرٌ مصرىٌ لمواقف اليونان، الداعمة للقاهرة؛ خصوصًا فى فترة ما بعد ثورة 30 يونيو، الحرجة، وهو تقدير سَجَّله أيضًا السيسي، فى زيارته لأثينا، حينما أشار إلى أن «اليونان قامت بدور كبير لشرح وجهة النظر المصرية فى الأحداث الداخلية، بعد ثورتىّ 2011، و2013، للأوروبيين، ونجحت فى ذلك»، وقال إن «مصر لن تنسى ذلك الموقف». وتأتى الشراكة الاستراتيجية بين القاهرة وأثينا؛ لتكلل جهود عشر سنوات من التقارب فى مجالات مختلفة، تضمنت التوقيع على عدد من الاتفاقيات والمشاريع المهمة، من بينها التوقيع على «اتفاق ترسيم الحدود البحرية فى المناطق الاقتصادية الخالصة بين البلدين، فى شرق البحر المتوسط»، فى 6 أغسطس 2020.
إلى جانب مشروع الربط الكهربائى، بين البلدين، فى إطار تعزيز التعاون فى مجال الطاقة بين دول شرق المتوسط، الذى تم توقيعه فى أكتوبر 2021.
وعلى الصعيد الإقليمى؛ تشترك مصر واليونان مع قبرص، فى آلية تعاون ثلاثى، على مدار السنوات العشر الماضية؛ لتعزيز التعاون فى مختلف المجالات؛ خصوصًا الطاقة، والعمل على استقرار وحماية ثروات الدول الثلاث فى منطقة شرق المتوسط، وهى الآلية التى عقد الاجتماع الأول لها فى القاهرة نوفمبر 2014، وتناوبت الدول الثلاث على استضافة اجتماعاتها على مدار السنوات الماضية؛ حيث عُقدت الجولة العاشرة منها فى يناير الماضى، بالقاهرة.